الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }

قوله تعالى: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } «صُمٌّ» أي هم صمّ، فهو خبر ٱبتداء مضمر. وفي قراءة عبد اللَّه ٱبن مسعود وحفصة: صُماًّ بكماً عمياً، فيجوز النصب على الذّم كما قال تعالى:مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } [الأحزاب:61]، وكما قال:وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ } [المسد:4]، وكما قال الشاعر:
سَقَوْنِي الخمرَ ثم تَكنَّفُونِي   عُدَاةَ الله من كَذِبٍ وزُورِ
فنصب «عُداةَ الله» على الذم. فالوقف على «يبصرون» على هذا المذهب صواب حسن. ويجوز أن ينصب صُمًّا بـ «ـتَرَكَهُمْ» كأنه قال: وتركهم صماً بكماً عمياً فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على «يبصرون». والصمم في كلام العرب: الانسداد يقال: قناة صمّاء إذا لم تكن مجوّفة. وصَمَمت القارورة إذا سددتها. فالأصم: من ٱنسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأخرس والأبكم واحد. ويقال: رجل أبكم وبَكِيم أي أخرس بيّن الخرس والبكم قال:
فلْيتَ لِسانِي كان نِصْفَينِ منهما   بَكيمٌ ونِصفٌ عند مَجْرَى الكواكبِ
والعمى: ذهاب البصر وقد عَمِيَ فهو أعْمَى، وقوم عُمْيٌ، وأعماه الله. وتعامى الرجل: أرى ذلك من نفسه. وعَمِيَ عليه الأمر إذا التبس ومنه قوله تعالى:فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ } [القصص:66]. وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة مّا تقول: فلان أصمّ عن الخنا. ولقد أحسن الشاعر حيث قال:
أَصَمُّ عمّا سَاءَهُ سَمِيعُ   
وقال آخر:
وعوراءِ الكلامِ صَمَمتُ عنها   ولو أني أشاء بها سمِيعُ
وقال الدارميّ:
أعْمى إذا ما جارتي خرجت   حتى يوارِي جارتِي الجُدْرُ
وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك:
اُدخُلُ إذا ما دخلتَ أعمَى   وٱخرُجْ إذا ما خرجتَ أخرس
وقال قتادة: «صمٌّ» عن ٱستماع الحق، «بكمٌ» عن التكلم به، «عميٌ» عن الإبصار له. قلت: وهذا المعنى هو المراد في وصف النبيّ صلى الله عليه وسلم وُلاة آخر الزمان في حديث جبريل: " وإذا رأيت الحُفاةَ العُراةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ ملوك الأرض فذاك من أشراطها " والله أعلم. قوله تعالى: { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم. يقال: رجع بنفسه رجوعاً، ورَجَعَه غيره وهُذيل تقول: أرجعه غيره. وقوله تعالى:يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ } [سبأ:31] أي يتلاومون فيما بينهم حسب ما بيّنه التنزيل في سورة «سبأ».