الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }

فيه ثمان مسائل: الأولى: قوله تعالى: { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ } ٱختلِف من المراد بهذا الخطاب فقال قتادة: ذُكر لنا أن رجلاً سأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن البرّ، فأنزل الله هذه الآية. قال: وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إلٰه إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله ثم مات على ذلك وجبت له الجنة فأنزل الله هذه الآية. وقال الربيع وقتادة أيضاً: الخطاب لليهود والنصارى لأنهم ٱختلفوا في التوجّه والتَّولّي فاليهود إلى المغرب قِبَل بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس وتكلّموا في تحويل القبلة وفضّلت كل فرقة توليتها فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، ولكن البر من آمن بالله. الثانية: قرأ حمزة وحفص «البِرَّ» بالنصب، لأن ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر فلما وقع بعد «ليس»: «البِرّ» نصبه وجعل «أن تُوَلُّوا» الاسمِ، وكان المصدر أولى بأن يكون ٱسماً لأنه لا يتنكّر، والبرّ قد يتنكّر والفعل أقوى في التعريف. وقرأ الباقون «البِرُّ» بالرفع على أنه ٱسم ليس، وخبره «أن تُوَلُّوا»، تقديره: ليس البرّ توليتكم وجوهكم وعلى الأوّل ليس توليتكم وجوهكم البرّ، كقوله:مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [الجاثية: 25]،ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤءَىٰ أَن كَذَّبُواْ } [الروم: 10]فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ } [الحشر: 17] وما كان مثله. ويقوّي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعاً في قوله:وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } [البقرة: 189] ولا يجوز فيه إلا الرفع فحملُ الأوّل على الثاني أوْلى من مخالفته له. وكذلك هو في مصحف أُبَيّ بالباء «لَّيْسَ ٱلْبِرَّ بأَن تُوَلُّواْ» وكذلك في مصحف ٱبن مسعود أيضاً وعليه أكثر القراء، والقراءتان حسنتان. الثالثة: قوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ } البر ها هنا ٱسم جامع للخير، والتقدير: ولكن البرّ برُّ من آمن فحذف المضاف كقوله تعالى:وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82]،وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ } [البقرة: 93] قاله الفرّاء وقُطْرُب والزجاج. وقال الشاعر:
فإنما هي إقبالٌ وإدبار   
أي ذات إقبال وذات إدبار. وقال النابغة:
وكيف تُواصل من أصبحتْ   خِلاَلته كأبِي مَرْحَبِ
أي كخلالة أبي مَرْحب فحذف. وقيل: المعنى ولكنّ ذا البر كقوله تعالى:هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ ٱللَّهِ } [آل عمران: 163] أي ذوو درجات. وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفُرضت الفرائض وصُرفت القبلة إلى الكعبة وحُدّت الحدود أنزل الله هذه الآية فقال: ليس البر كله أن تصلّوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر ـ أي ذا البر ـ من آمن بالله، إلى آخرها قاله ٱبن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضاً. ويجوز أن يكون «البر» بمعنى البارّ والبَرّ، والفاعل قد يُسمَّى بمعنى المصدر كما يقال: رجل عَدْل، وصَوْم وفِطْر.

السابقالتالي
2 3