الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

فيه أربع وثلاثون مسألة: الأولى: قوله تعالى: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ } «إنّما» كلمة موضوعة للحصر، تتضمّن النفي والإثبات فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه، وقد حَصرت ها هنا التحريم، لاسيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم عقبها بذكر المُحَرّم بكلمة «إنما» الحاصرة، فٱقتضى ذلك الإيعاب للقسمين فلا محرّم يخرج عن هذه الآية، وهي مدَنيّة وأكّدها بالآية الأخرى التي رُوِيَ أنها نزلت بعَرَفة:قُل لاَ أَجِدُ فِيمَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [الأنعام: 145] إلى آخرها فٱستوفى البيان أوّلاً وآخراً قاله ٱبن العربي. وسيأتي الكلام في تلك في «الأنعام» إن شاء الله تعالى. الثانية: { ٱلْمَيْتَةَ } نصب بـ «ـحرّم»، و «ما» كافّة. ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في الخط، وترفع { ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ } على خبر «إنّ» وهي قراءة ٱبن أبي عَبْلة. وفي «حَرّم» ضمير يعود على الذي ونظيره قوله تعالى:إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [طه: 69]. وقرأ أبو جعفر «حُرِم» بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها، إمّا على ما لم يُسَمّ فاعله، وإمّا على خبر إن. وقرأ أبو جعفر بن القَعْقَاع أيضاً «ٱلْمَيْتَةَ» بالتشديد. الطبري: وقال جماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف في مَيْتٍ ومَيّتٍ لغتان. وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يَمُت بعدُ فلا يقال فيه «مَيْت» بالتخفيف دليله قوله تعالى:إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30]. وقال الشاعر:
ليس من مات فٱستراح بمَيْت   إنما الميْت مَيّت الأحياء
ولم يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت إلا ما رَوى البَزِّي عن ٱبن كَثير «وَمَا هُوَ بِمَيْتٍ» والمشهور عنه التثقيل وأما قول الشاعر:
إذا ما مات مَيْتٌ من تميم   فَسّرك أن يعيش فجىء بزاد
فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت والأوّل أشهر. الثالثة: الْميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يُذبح وما ليس بمأكول فذكاته كموته كالسباع وغيرها، على ما يأتي بيانه هنا وفي «الأنعام» إن شاء الله تعالى. الرابعة: هذه الآية عامة دخلها التخصيص بقوله عليه السلام: " أُحِلّت لنا مَيْتَتَانِ الحُوتُ والجراد ودَمانِ الكبدُ والطحال " أخرجه الدَّارَقُطْنِي، وكذلك: حديث جابر في العَنْبَر يخصص عموم القرآن بصحة سنده. خرّجه البخاريّ ومسلم مع قوله تعالى:أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ } [المائدة: 96]، على ما يأتي بيانه هناك، إن شاء الله تعالى. وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع دواب البحر حَيّها ومَيّتها وهو مذهب مالك. وتوقّف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزيرا! قال ٱبن القاسم: وأنا أتّقيه ولا أراه حراماً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد