الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ }

فيه سبع مسائل: الأولى: أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البيّنات والهُدَى ملعون. وٱختلفوا مَن المراد بذلك فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كتم اليهودُ أمرَ الرجم. وقيل: المراد كل من كتم الحق فهي عامة في كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بَثّه وذلك مفسّر في قوله صلى الله عليه وسلم: " من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار " رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص، أخرجه ٱبن ماجه. ويعارضه قول عبد اللَّه بن مسعود: ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عليه السلام: " حدّث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله " وهذا محمول على بعض العلوم، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام فحكم العالِم أن يُحدّث بما يُفهم عنه، وينزل كل إنسان منزلته والله تعالى أعلم. الثانية: هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله: لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدّثتكم حديثاً. وبها ٱستدلّ العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فِعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام. وقد مضى القول في هذا. وتحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأمّا من سُئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يُسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحِجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يُعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلاً يتطرّق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرُّخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقاً إلى ٱرتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. يُرْوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها " وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تعلّقوا الدُّرّ في أعناق الخنازير " يريد تعليم الفقه من ليس من أهله. وقد قال سُحْنون: إن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة. قال ٱبن العربي: والصحيح خلافه لأن في الحديث " مَن سُئل عن علم " ولم يقل عن شهادة، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله والله أعلم. الثالثة: قوله تعالى: { مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ } يعمّ المنصوص عليه والمستنبط لشمول ٱسم الهُدَى للجميع.

السابقالتالي
2