الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمّةً وَسَطاً أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. والوسط: العَدْل وأصل هذا أنّ أحمد الأشياء أوسطها. وروى الترمذيّ عن أبي سعيد الخُدْرِيّ " عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال: «عَدْلاً» " قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي التنزيل:قَالَ أَوْسَطُهُمْ } [القلم:28] أي أعدلهم وخيرهم. وقال زهير:
هُمُ وَسَطٌ يَرضَى الأنامُ بحكمهم   إذا نزلتْ إحدى الليالي بِمُعْظَم
آخر:
أنتُم أوسطُ حَيّ علموا   بصغير الأمر أو إحدى الكُبَر
وقال آخر:
لا تذهَبنّ في الأمور فَرَطا   لا تسألَن إن سألتَ شَطَطا
وكنْ مِن الناس جميعاً وَسَطا   
ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثره كَلأ وماء. ولما كان الوسط مجانِباً للغلوّ والتقصير كان محموداً أي هذه الأمة لم تَغْل غُلوّ النصارى في أنبيائهم، ولا قَصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم. وفي الحديث: " خير الأمور أوسطها " وفيه عن عليّ رضي الله عنه: «عليكم بالنَّمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل». وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه أي من خيارهم وأهل الحسب منهم. وقد وَسَط وسَاطة وِسطَة وليس من الوَسط الذي بين شيئين في شيء. والوَسْط بسكون السين الظَّرف تقول: صلّيت وَسْط القوم. وجلست وَسَط الدار بالتحريك لأنه ٱسم. قال الجوهري: وكل موضع صلَح فيه «بَيْن» فهو وَسْط، وإن لم يصلح فيه «بين» فهو وَسَط بالتحريك، وربما يسكَّن وليس بالوجه. الثانية: قوله تعالى: { لِّتَكُونُواْ } نصب بلام كي أي لأن تكونوا. { شُهَدَآءَ } خبر كان. { عَلَى ٱلنَّاسِ } أي في المحشر للأنبياء على أممهم كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُدْعَى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لَبَيْك وسَعْدَيْك يا رَبّ فيقول هل بلّغت فيقول نعم فيقال لأمّته هل بلّغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول مَن يشهد لك فيقول محمد وأمّته فيشهدون أنه قد بلّغ ويكون الرسول عليكم شَهِيداً فذلك قوله عز وجل { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }... " وذكر هذا الحديث مطوّلاً ٱبن المبارك بمعناه، وفيه: " فتقول تلك الأمم كيف يَشهد علينا مَن لم يُدركنا فيقول لهم الربّ سبحانه كيف تشهدون على مَن لم تُدركوا فيقولون ربّنا بعثت إلينا رسولاً وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصتَ علينا أنهم قد بلّغوا فشَهدنا بما عَهِدتَ إلينا فيقول الربّ صدقوا فذلك قوله عزّ وجلّ وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ـ والوَسَط العَدْل ـ لِتكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيداً "

السابقالتالي
2 3 4