الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }

قوله تعالى: { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } أي صيّرنا، و «مسلمين» مفعول ثان سألا التثبيت والدوام. والإسلام في هذا الموضع: الإيمان والأعمال جميعاً ومنه قوله تعالى:إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [آل عمران: 19] ففي هذا دليل لمن قال: إن الإيمان والإسلام شيء واحد وعَضَدُوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى:فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الذاريات: 35-36]. وقرأ ٱبن عباس وعَوْف الأعرابي «مسلِمِين» على الجمع. قوله تعالى: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } أي ومن ذريّتنا فٱجعل فيقال: إنه لم يدع نبيّ إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة. و «مِن» في قوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ } للتبعيض لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين. وحكى الطبري: أنه أراد بقوله: { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ } العرب خاصة. قال السهيلي: وذريتهما العرب لأنهم بنو نَبِت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل. ويقال: قَيْدَر بن نبت بن إسماعيل. أما العدنانية فمن نبت، وأما القَحْطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل، أو تيمن على أحد القولين. قال ٱبن عطية: وهذا ضعيف لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم. والأمّة: الجماعة هنا، وتكون واحداً إذا كان يُقْتدى به في الخير ومنه قوله تعالى:إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [النحل: 120]، " وقال صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نُفَيل: «يُبعث أمّةً وحده» " لأنه لم يشرك في دينه غيره، والله أعلم. وقد يطلق لفظ الأمّة على غير هذا المعنى ومنه قوله تعالى:إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } [الزخرف: 22] أي على دين ومِلة ومنه قوله تعالى:إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [الأنبياء: 92]. وقد تكون بمعنى الحين والزمان ومنه قوله تعالى:وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [يوسف: 45] أي بعد حين وزمان. ويقال: هذه أُمّة زيد أي أُمّ زيد. والأمّة أيضاً: القامة يقال: فلان حسن الأمّة أي حسن القامة قال:
وإنّ معاويةَ الأكْرَمِيـ   ـن حسانُ الوجوه طِوالُ الأُمَمْ
وقيل: الأمّة الشجة التي تبلغ أمّ الدماغ يقال: رجل مأموم وأمِيم. قوله تعالى: { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } «أرِنَا» من رؤية البصر، فتتعدّى إلى مفعولين، وقيل: من رؤية القلب ويلزم قائله أن يتعدّى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل. قال ٱبن عطية: وينفصل بأنه يوجد معدّى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين كغير المعدّى، قال حُطائط ٱبن يعفُر أخو الأسود بن يَعْفُر:
أرِيني جواداً مات هزْلاً لأَننِي   أَرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّداً
وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وٱبن كثير وٱبن مُحَيْصِن والسُّدّي ورَوْح عن يعقوب ورُوَيْس والسُّوسي «أرْنَا» بسكون الراء في القرآن وٱختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو بٱختلاس كسرة الراء، والباقون بكسرها وٱختاره أبو عبيد.

السابقالتالي
2 3