الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ }

قوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { جَعَلْنَا } بمعنى صَيّرنا لتعدّيه إلى مفعولين، وقد تقدّم. { ٱلْبَيْتَ } يعني الكعبة { مَثَابَةً } أي مرجعاً يقال: ثاب يثوب مَثاباً ومَثابةً وثُؤوباً وثَوَباناً. فالمثابة مصدر وُصف به ويراد به الموضع الذي يُثاب إليه أي يرجع إليه. قال ورَقة بن نَوْفل في الكعبة:
مَثاباً لأَفناءِ القبائل كلِّها   تَخُبُّ إليها اليَعْمَلاتُ الذَّوامِلُ
وقرأ الأعمش «مَثاباتٍ» على الجمع. ويحتمل أن يكون من الثواب أي يثابون هناك. وقال مجاهد: لا يقضي أحد منه وَطَراً قال الشاعر:
جُعِل البيتُ مَثاباً لهمُ   ليس منه الدّهر يقضون الوَطَرْ
والأصل مثوبة، قُلبت حركة الواو على الثاء فقلبت الواو ألفاً ٱتباعاً لثاب يثوب، وٱنتصب على المفعول الثاني، ودخلت الهاء للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطراً فهي كنسّابة وعلاّمة قاله الأخفش. وقال غيره: هي هاء تأنيث المصدر وليست للمبالغة. فإن قيل: ليس كل من جاءه يعود إليه، قيل: ليس يختص بمن ورد عليه، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة، ولا يعدم قاصداً من الناس والله تعالى أعلم. الثانية: قوله تعالى: { وَأَمْناً } استدلّ به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحدّ في الحَرَم على المُحْصن والسارق إذا لجأ إليه وعَضَدُوا ذلك بقوله تعالى:وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [آل عمران: 97] كأنه قال: آمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحَرَم، وأن ذلك من المنسوخ لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرَم أم لا؟ والحَرَمُ لا يقع عليه ٱسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قَتل في الحَرَم قُتل به، ولو أتى حَدًّا أُقِيد منه فيه، ولو حارب فيه حُورب وقُتل مكانه. وقال أبو حنيفة: من لَجَأ إلى الحرم لا يُقتل فيه وَلا يُتابع، ولا يزال يُضيق عليه حتى يموت أو يخرج. فنحن نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصّد فأيّ قتل أشدّ من هذا. وفي قوله: { وَأَمْناً } تأكيد للأمر بٱستقبال الكعبة أي ليس في بيت المَقْدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن ٱستعاذ بالحَرَم أَمِن من أن يُغار عليه. وسيأتي بيان هذا في «المائدة» إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَٱتَّخِذُواْ } قرأ نافع وٱبن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر عمن ٱتخذه من متّبعي إبراهيم، وهو معطوف على { جَعَلْنَا } أي جعلنا البيت مَثابةً وٱتخذوه مُصَلًّى. وقيل هو معطوف على تقدير إذ، كأنه قال: وإذ جعلنا البيت مَثابةً وإذ ٱتخذوا فعلى الأوّل الكلام جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان.

السابقالتالي
2 3 4 5