الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }

«إذا» في موضع نصب على الظرف والعامل فيها «قالوا» وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر. قال الجوهري: «إذا» ٱسم يدلّ على زمان مستقبل، ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة تقول: أجيئك إذا احمرّ الْبُسْر، وإذا قدِم فلان. والذي يدل على أنها ٱسم وقوعها موقع قولك: آتيك يوم يقدَم فلان فهي ظرف وفيها معنى المجازاة. وجزاء الشرط ثلاثة: الفعل والفاء وإذا فالفعل قولك: إن تأتني آتك. والفاء: إن تأتني فأنا أحسِن إليك. وإذا كقوله تعالى:وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [الروم:36]. ومما جاء من المجازاة بإذا في الشعر قول قيس بن الخَطِيم:
إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وصلُها   خُطانا إلى أعدائنا فنُضارِبِ
فعطف «فنضارب» بالجزم على «كان» لأنه مجزوم، ولو لم يكن مجزوماً لقال: فنضاربَ بالنصب. وقد تزاد على «إذا» «ما» تأكيداً، فيُجزم بها أيضاً ومنه قول الفَرَزْدَق:
فقام أبو لَيْلَى إليه ٱبنُ ظالمٍ   وكان إذا ما يسلُلِ السيفَ يضرِبِ
قال سيبويه: والجيّد ما قال كعب بن زُهَير:
وإذا ما تشاءُ تبعثُ منها   مغربَ الشمسِ ناشِطاً مَذْعُورَا
يعني أن الجيّد ألا يجزم بإذا كما لم يجزم في هذا البيت. وحكي عن المبرّد أنها في قولك في المفاجأة: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان لأنها تضمنت جُثّة. وهذا مردود لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد فإنما تضمّنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان ومنه قولهم: «اليومَ خَمْرٌ وغداً أمرٌ» فمعناه وجود خمر ووقوع أمر. قوله: { قِيلَ } من القَول وأصله قَوِل نُقِلت كسرة الواو إلى القاف فٱنقلبت الواو ياء. ويجوز: «قيل لهم» بإدغام اللام في اللام. وجاز الجمع بين ساكنين لأن الياء حرف مدّ ولين. قال الأخفش: ويجوز «قُيُل» بضم القاف والياء. وقال الكسائي: ويجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله، وهي لغة قيس. وكذلك جِيءَ وغِيضَ وحِيل وسِيق وسِيء وسِيئت. وكذلك روى هشام عن ٱبن عباس، ورُوَيْس عن يعقوب. وأَشَمّ منها نافع سيء وسيئت خاصة. وزاد ٱبن ذَكوان: حِيل وسِيق وكسر الباقون في الجميع. فأما هُذيل وبنو دُبَير من أسد وبني فَقْعَس فيقولون: «قوْل» بواو ساكنة. قوله: { لاَ تُفْسِدُواْ } «لا» نهي. والفساد ضدّ الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدّها. فَسَد الشيء يَفْسِدُ فَساداً وفُسوداً وهو فاسد وفِسيد. والمعنى في الآية: لا تُفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقيل: كانت الأرض قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي فلما بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ٱرتفع الفساد وصلحت الأرض. فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها كما قال في آية أخرى:

السابقالتالي
2