الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

قوله تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ }. فيه مسألتان: الأولى: { وَدَّ } تمنّى، وقد تقدّم. { كُفَّاراً } مفعول ثان بـ «يَرُدُّونَكُمْ». { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } قيل: هو متعلق بـ«ـوَدّ». وقيل: بـ «ـحَسَداً» فالوقف على قوله: «كفّاراً». و «حسداً» مفعول له أي وَدُّوا ذلك للحسد، أو مصدر دلّ ما قبله على الفعل. ومعنى «مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» أي من تلقائهم من غير أن يجدوه في كتاب ولا أمِروا به ولفظة الحسد تُعطي هذا. فجاء «مِن عِنْدِ أنْفُسِهِم» تأكيداً وإلزاماً كما قال تعالى:يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [آل عمران: 167]يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } [البقرة: 79]،وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38]. والآية في اليهود. الثانية: الحسد نوعان: مذموم ومحمود فالمذموم أن تتمنّى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أوْ لا وهذا النوع الذي ذمّه الله تعالى في كتابه بقوله:أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [النساء: 54] وإنما كان مذموماً لأن فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق. وأما المحمود فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السلام. " لا حَسدَ إلا في اثنتين رجلٍ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليلِ وآناء النهارِ ورجلٍ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليلِ وآناء النهارِ " وهذا الحسد معناه الغِبطة. وكذلك ترجم عليه البخاري «باب الاغتباط في العلم والحكمة». وحقيقتها: أن تتمنّى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة ولا يزول عنه خيره وقد يجوز أن يسمَّى هذا منافسة ومنه قوله تعالى:وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 26]. { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ } أي من بعد ما تبيّن الحق لهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الذي جاء به. قوله تعالى: { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ } فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { فَٱعْفُواْ } والأصل ٱعْفُووا حُذفت الضمة لثقلها، ثم حذفت الواو لألتقاء الساكنين. والعَفْوُ: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس. صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحاً إذا أعرضت عنه وتركته ومنه قوله تعالى:أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً } [الزخرف: 5] الثانية: هذه الآية منسوخة بقوله:قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [التوبة: 29] إلى قوله:صَاغِرُونَ } [التوبة: 29] عن ٱبن عباس. وقيل: الناسخ لهافَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 5]. قال أبو عبيدة: كل آية فيها تركٌ للقتال فهي مَكِّية منسوخة بالقتال. قال ابن عطية: وحُكْمه بأن هذه الآية مَكّية ضعيف لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة. قلت: وهو الصحيح، روى البخاريّ ومسلم عن أسامة بن زيد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَكِب على حمار عليه قَطِيفة فَدَكِيّة وأسامة وراءه، يعود سعد بن عُبَادة في بني الحارث ابن الخزرج قبل وقعة بدْر فسارا حتى مرّا بمجلس فيه عبد اللَّه بن أَبي ٱبن سَلُول ـ وذلك قبل أن يسلم عبد اللَّه بن أُبَيّ ـ فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان واليهود وفي المسلمين عبد اللَّه بن رَوَاحة فلما غشِيت المجلس عَجَاجةُ الدابة خَمَّر ٱبن أُبَيّ أنفه بردائه وقال: لا تُغَبِّروا علينا! فسلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن فقال له عبد اللَّه بن أَبي ٱبن سَلُول: أيها المرء، لا أحسن مما تقول إن كان حقا! فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رَحْلك فمن جاءك فٱقصص عليه. قال عبد اللَّه بن رَوَاحة: بلى يا رسول الله، فٱغْشَنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فٱستتبّ المشركون والمسلمون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَفّضهم حتى سكنوا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حُبّاب ـ يريد عبد اللَّه بن أُبَيّ ـ قال كذا وكذا» فقال: أي رسول الله، بأبي أنت وأمي! ٱعف عنه وٱصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد ٱصطلح أهل هذه البُحيرة على أن يُتَوِّجُوه ويُعَصِّبُوه بالعصابة، فلمّا ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاك شَرِق بذلك، فذلك فعل ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

السابقالتالي
2 3