الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

فيه خمس عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } «نُنْسِها» عطف على «ننسخ»، وحذفت الياء للجزم. ومن قرأ «نَنْسَأْها» حذف الضمة من الهمزة للجزم وسيأتي معناه. { نَأْتِ } جواب الشرط، وهذه آية عظمى في الأحكام. وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجّه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إن محمداً يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه فما كان هذا القرآن إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضاً فأنزل الله:وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } [النحل: 101] وأنزل «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ». الثانية: معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء لما يترتّب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البَخْتَرِيّ قال: دخل عليّ رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوّف الناس فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يُذكّر الناس فقال: ليس برجل يذكّر الناس! لكنه يقول أنا فلان ٱبن فلان فٱعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ٰ فقال: لا قال: فٱخرج من مسجدنا ولا تُذكّر فيه. وفي رواية أُخرى: أعلمتَ الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا قال: هلكتَ وأهلكت. ومثله عن ٱبن عباس رضي الله عنهما. الثالثة: النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما: النقل كنقل كتاب من آخر. وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العِزّة في السماء الدنيا وهذا لا مدخل له في هذه الآية ومنه قوله تعالى:إِنّاَ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 29] أي نأمر بنسخه وإثباته. الثاني: الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا وهو منقسم في اللغة على ضربين: أحدهما: إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ومنه نسخَتِ الشمسُ الظلَّ إذا أذهبته وحلّت محله وهو معنى قوله تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا }. وفي صحيح مسلم: " لم تكن نبوّة قطّ إلا تناسخت " أي تحوّلت من حال إلى حال يعني أمر الأمّة. قال ٱبن فارس: النّسخ نسخ الكتاب، والنّسخ أن تزيل أمراً كان من قبل يُعمل به ثم تنسخه بحاديث غيره كالآية تنزل بأمر ثم ينسخ بأخرى. وكلّ شيء خلف شيئاً فقد ٱنتسخه يقال: ٱنتسختِ الشمسُ الظلَّ، والشيبُ الشبابَ. وتناسُخِ الورثة: أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم وكذلك تناسُخِ الأزمنة والقرون. الثاني: إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه كقولهم: نسخت الريح الأثر ومن هذا المعنى قوله تعالى:فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ } [الحج: 52] أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله. وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم السورة فتُرفع فلا تُتلى ولا تُكتب.

السابقالتالي
2 3 4 5 6