الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } * { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } * { قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً }

قوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ } أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى:أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } [مريم: 66]. وقال فيهم: { وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } أي هؤلاء إذا قرىء عليهم القرآن تَعزَّزوا بالدنيا، وقالوا: فما بالنا ـ إن كنا على باطل ـ أكثر أموالاً وأعز نفراً. وغرضهم إدخال الشبهة على المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه المحقّ في دينه، وكأنهم لم يروا في الكفار فقيراً ولا في المسلمين غنياً، ولم يعلموا أن الله تعالى نَحَّى أولياءه عن الاغترار بالدنيا، وفرط الميل إليها. و«بيناتٍ» معناه مرتَّلات الألفاظ، ملخصة المعاني، مبينات المقاصد إما محكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً. أو ظاهرات الإعجاز تُحدّي بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججاً وبراهين. والوجه أن تكون حالاً مؤكدة كقوله تعالى:وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً } [البقرة: 91] لأن آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة وحججاً. { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يريد مشركي قريش النضر بن الحارث وأصحابه. { لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة، وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم، ويدهنون رؤوسهم، ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا: للمؤمنين: { أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً }. قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد «مُقَاماً» بضم الميم وهو موضع الإقامة. ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإقامة. الباقون «مَقَاماً» بالفتح، أي منزلاً ومسكناً وقيل: المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلةأي أيّ الفريقين أكثر جاهاً وأنصاراً. «وَأَحْسَنُ نَدِيًّا» أي مجلساً عن ابن عباس. وعنه أيضاً المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي. ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم. وناداه جالسه في النادي قال:
أنادي به آل الوليد وجعفرَا   
والنديّ على فعيل مجلس القوم ومتحدَّثهم، وكذلك الندوة والنادي والمُنْتَدى والمُنَتَدَّى، فإن تفرق القوم فليس بنديّ قاله الجوهري. قوله تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } أي من أمة وجماعة. { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً } أي متاعاً كثيراً قال:
وفَرْعٍ يَزينُ المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ   أَثِيثٍ كقِنْوِ النَّخلَةِ المُتَعَثْكِلِ
والأثاث متاع البيت. وقيل: هو ما جدّ من الفَرْش والخُرْثيّ ما لُبس منها، وأنشد الحسن بن عليّ الطوسي فقال:
تقادم العهد من أم الوليد بنا   دهراً وصار أثاث البيت خُرْثِيّا
وقال ابن عباس: هيئة. مقاتل: ثيابا. { وَرِءْياً } أي منظَراً حسناً. وفيه خمس قراءات: قرأ أهل المدينة «ورِيًّا» بغير همز. وقرأ أهل الكوفة «ورِئيا» بالهمز. وحكى يعقوب أن طلحة قرأ «وَرِياً» بياء واحدة مخففة. وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: «هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وزِيًّا» بالزاي فهذه أربع قراءات.

السابقالتالي
2