الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } * { قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } * { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } * { وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } * { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً }

فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت بـ«ـإني نذرت للرحمن صوماً» وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال: إن أمرها بـ«ـقولي» إنما أريد به الإشارة. ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشدّ علينا من زناها، ثم قالوا لها على جهة التقرير: «كيف نكلم من كان فِي المهدِ صبِياً» و«كان» هنا ليس يراد بها الماضي لأن كل واحد قد كان في المهد صبياً، وإنما هي في معنى هو الآن. وقال أبو عبيدة: «كان» هنا لغو كما قال:
وجِيرانٍ لنا كانوا كرامِ   
وقيل: هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله: «وَإِنْ كَانَ ذو عُسْرَةٍ» وقد تقدّم. وقال ابن الأنباري: لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت «صبياً»، ولا أن يقال «كان» بمعنى حدث، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر، تقول: كان الحَرُّ وتكتفي به. والصحيح أن «من» في معنى الجزاء و«كان» بمعنى يكن والتقدير: من يكن في المهد صبياً فكيف نكلمه؟! كما تقول: كيف أعطي من كان لا يقبل عطية أي من يكن لا يقبل. والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء كقوله تعالى:تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [الفرقان: 10] أي إن يشأ يجعل. وتقول: من كان إليّ منه إحسان كان إليه مني مثله، أي من يكن منه إلى إحسان يكن إليه مني مثله. «والمهد» قيل: كان سريراً كالمهد. وقيل: «المهد» هاهنا حجر الأم. وقيل: المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوَّم في المهد لصغره، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } وهي: الثانية: فقيل: كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى، و { قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } فكان أوّل ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته، رداً على من غلا من بعده في شأنه والكتاب الإنجيل قيل: آتاه في تلك الحالة الكتاب، وفهمه وعلمه، وآتاه النبوّة كما علم آدم الأسماء كلها، وكان يصوم ويصلي. وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا. وقيل: أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل، وإن لم يكن الكتاب منزلاً في الحال وهذا أصح. { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً } أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلِّماً له. التُّسْتَريّ: وجعلني آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف.

السابقالتالي
2 3