الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } * { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } * { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } * { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } * { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } * { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } * { فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } * { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } * { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } * { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } * { فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً }

قوله تعالى: { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ } القصة إلى آخرها. هذا ابتداء قصة ليست من الأولى. والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أي عرَّفهم قصتها ليعرفوا كمال قدرتنا. { إِذِ ٱنتَبَذَتْ } أي تنحت وتباعدت. والنبذ الطرح والرمي قال الله تعالى:فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [آل عمران: 187]. { مِنْ أَهْلِهَا } أي ممن كان معها. و«إذ» بدل من «مريم» بدل اشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها. والانتباذ الاعتزال والانفراد. واختلف الناس لم انتبذت فقال السدي: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره: لتعبد الله وهذا حسن. وذلك أن مريم عليها السلام كانت وقفاً على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، فتنحت من الناس لذلك، ودخلت في المسجد إلى جانب المحراب في شرقيه لتخلو للعبادة، فدخل عليها جبريل عليه السلام. فقوله: { مَكَاناً شَرْقِياً } أي مكاناً من جانب الشرق. والشَّرْق بسكون الراء المكان الذي تشرق فيه الشمس. والشَّرَق بفتح الراء الشمس. وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق ومن حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها حكاه الطبري. وحكي عن ابن عباس أنه قال: إني لأعلم الناسِ لم اتخذ النصارى المشرق قبلة لقول الله عز وجل: { إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } فاتخذوا ميلاد عيسى عليه السلام قبلة وقالوا: لو كان شيء من الأرض خيراً من المشرق لوضعت مريم عيسى عليه السلام فيه. واختلف الناس في نبوّة مريم فقيل كانت نبية بهذا الإرسال والمحاورة للملَك. وقيل: لم تكن نبية وإنما كلمها مثال بشر، ورؤيتها للملك كما رؤي جبريل في صفة دِحْية الكلبي حين سؤاله عن الإيمان والإسلام. والأول أظهر. وقد مضى الكلام في هذا المعنى مستوفى في «آل عمران» والحمد لله. قوله تعالى: { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } قيل: هو روح عيسى عليه السلام لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها. وقيل: هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصاً وكرامة. والظاهر أنه جبريل عليه السلام لقوله: { فَتَمَثَّلَ لَهَا } أي تمثل الملك لها. { بَشَراً } تفسير أو حال. { سَوِيّاً } أي مستوي الخلقة لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته. ولما رأت رجلاً حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء فـ { ـقَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي ممن يتقي الله. البِكَاليّ: فنكص جبريل عليه السلام فزعاً من ذكر الرحمن تبارك وتعالى. الثعلبيّ: كان رجلاً صالحاً فتعوذت به تعجباً. وقيل: تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يُتَّقى منه. وفي البخاري قال أبو وائل: علمت مريم أن التقيّ ذو نُهْيةٍ حين قالت: «إن كنت تقيا».

السابقالتالي
2 3 4 5 6