الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } * { وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } * { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } * { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً }

قوله تعالى: { أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ } استدل بهذا من قال: إن المسكين أحسن حالاً من الفقير، وقد مضى هذا المعنى مستوفى في سورة «براءة». وقد قيل: إنهم كانوا تجاراً ولكن من حيث هم مسافرون عن قلّة في لجة بحر، وبحال ضعف عن مدافعة خطب عُبِّر عنهم بمساكين إذ هم في حالة يُشفَق عليهم بسببها، وهذا كما تقول لرجل غنيّ وقع في وَهْلَة أو خَطْب: مسكينٌ. وقال كعب وغيره: كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زَمْنى، وخمسة يعملون في البحر. وقيل: كانوا سبعة لكل واحد منهم زَمَانة ليست بالاخر. وقد ذكر النقاش أسماءهم فأما العمال منهم فأحدهم كان مجذوماً والثاني أعور، والثالث أعرج، والرابع آدَر، والخامس محموماً لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم والخمسة الذين لا يطيقون العمل: أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون، وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم ذكره الثعلبي. وقرأت فرقة: «لِمَسَّاكِينَ» بتشديد السين، واختلف في ذلك فقيل: هم مَلاَّحو السفينة، وذلك أن المسّاك هو الذي يمسك رجل السفينة، وكل الخدمة تصلح لإمساكه فسمى الجميع مسّاكين. وقالت فرقة: أراد بالمسَّاكين دبغة المُسُوك وهي الجلود واحدها مَسْك. والأظهر قراءة «مساكين» بالتخفيف جمع مسكين، وأن معناها: إن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم. والله أعلم. قوله تعالى: { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } أي أجعلها ذات عيب، يقال: عِبتُ الشيء فعاب إذا صار ذا عَيب، فهو معِيب وعائب. وقوله: { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } قرأ ابن عباس وابن جبير «صحيحةٍ» وقرأ أيضاً ابن عباس وعثمان بن عفان «صالحةٍ». و«وراء» أصلها بمعنى خلف فقال بعض المفسرين: إنه كان خلفه وكان رجوعهم عليه. والأكثر على أن معنى «وراء» هنا أمام يَعضُده قراءة ابن عباس وابن جبير «وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَحِيحَةٍ غَصْباً». قال ابن عطية: «وراءهم» هو عندي على بابه وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعى بها الزمان، وذلك أن الحدث المقدّم الموجود هو الأمام، والذي يأتي بعده هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمّل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها: إن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمان غصب هذا الملك ومن قرأ «أمامهم» أراد في المكان، أي كأنهم يسيرون إلى بلد، وقوله عليه الصلاة والسلام: " الصلاة أمامك " يريد في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمان وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ ووقع لقتادة في كتاب الطبري «وكان وراءهم ملك» قال قتادة: أمامهم ألا تراه يقول: «مِن ورائِهِم جهنم» وهي بين أيديهم وهذا القول غير مستقيم، وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضجّ منها قاله الزجاج.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9