الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } * { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } * { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } * { قَالَ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } * { قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً }

قوله تعالى: { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: «قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ» هذا سؤال الملاطِف، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك ويخفّ عليك؟ وهذا كما في الحديث: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله تعالى:هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [المائدة: 112] حسب ما تقدم بيانه في «المائدة». الثانية: في هذه الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فضّله الله فالخضر إن كان ولياً فموسى أفضل منه، لأنه نبيّ والنبي أفضل من الوليّ، وإن كان نبياً فموسى فضله بالرسالة. والله أعلم. «ورشداً» مفعول ثان بـ«تعلمني». { قَالَ } الخضر: { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي لأن الظواهر التي هي علمك لا تُعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تُخبَر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب وهو معنى قوله: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } والأنبياء لا يُقِرّون على منكر، ولا يجوز لهم التقرير. أي لا يسعك السكوت جرياً على عادتك وحُكمك. وانتصب «خُبْراً» على التمييز المنقول عن الفاعل. وقيل: على المصدر الملاقى في المعنى، لأن قوله: «لَمْ تُحِطْ» معناه لم تَخْبُرْهُ، فكأنه قال: لم تَخبره خُبراً وإليه أشار مجاهد. والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها. قوله تعالى: { قَالَ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً } أي سأصبر بمشيئة الله. { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } أي قد ألزمت نفسي طاعتك. وقد اختلف في الاستثناء، هل هو يشمل قوله: { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } أم لا؟ فقيل: يشمله كقوله:وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ } [الأحزاب: 35]. وقيل: استثنى في الصبر فصبَرَ، وما استثنى في قوله: { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } فاعترض وسأل. قال علماؤنا: إنما كان ذلك منه لأن الصبر أمر مستقبل ولا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفيُ المعصية معزوم عليه حاصل في الحال، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه. ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسباً لنا بخلاف فعل المعصية وتركها، فإن ذلك كله مكتسب لنا والله أعلم. قوله تعالى: { قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صَبَر ودَأَب لرأى العجب، لكنه أكثر من الاعتراض، فتعين الفراق والإعراض.