الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً } * { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَٰهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً } * { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَٰنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً } * { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } * { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً }

قوله تعالى: { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً } الضمير في قوله: «بينهما» للبحرين قاله مجاهد. والسَّرَب المسلك قاله مجاهد أيضاً. وقال قتادة: جَمَد الماء فصار كالسَّرَب. وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغاً، وأن موسى مشى عليه متبعاً للحوت، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر. وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر. وقوله: «نسيا حوتهما» وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل: المعنى نسي أن يُعلِم موسى بما رأى من حاله فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى:يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح، وقوله: { يا معشر الجِن والإنس ألم يأتِكم رسل مِنكم } وإنما الرسل من الإنس لا من الجن. وفي البخاري فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلَّفتَ كبيراً فذلك قوله عز وجل: { وإذ قال موسى لفتاه } يوشع بن نون ـ ليست عن سعيد ـ قال: فبينا هو في ظل صخرة في مكانٍ ثَرْيَانَ إذ تضرَّب الحوتُ وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتَضَرَّبَ الحوتُ حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جِرْيَةَ البحرِ حتى كأنّ أثرَه في حَجَر قال لي عمرو: هكذا كأنّ أثره في حَجَر وحَلَّقَ بين إبهاميه واللتين تَلِيانِهِما. وفي رواية: وأمسك الله عن الحوت جِرْية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبُه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً } ولم يجد موسى النَّصَبَ حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ }. وقيل: إن النسيان كان منهما لقوله تعالى: «نسِيا» فنسب النسيان إليهما وذلك أن بدو حمل الحوت كان من موسى لأنه الذي أمر به، فلما مضيا كان فتاه هو الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا { فَلَمَّا جَاوَزَا } يعني الحوت هناك منسياً ـ أي متروكاً ـ فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة، وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين وهو الصخرة، فقد كان موسى شريكاً في النسيان لأن النسيان التأخير من ذلك قولهم في الدعاء: أنسأ الله في أجلِك. فلما مضيا من الصخرة أخّرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما، فجاز أن ينسب إليهما لأنهما مضيا وتركا الحوت. قوله تعالى: { آتِنَا غَدَآءَنَا } فيه مسألة واحدة، وهو اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو ردٌّ على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامه والقِفار، زعماً منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد.

السابقالتالي
2 3 4