الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } * { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } * { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً }

قوله تعالى: { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } قيل: الضمير عائد على إبليس وذريته أي لم أشاورهم في خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم، بل خلقتهم على ما أردت. وقيل: ما أشهدت إبليس وذريته خلق السموات والأرض «ولا خلق أنفسهم» أي أنفس المشركين فكيف اتخذوهم أولياء من دوني؟. وقيل: الكناية في قوله: «مَا أَشْهَدْتُهُمْ» ترجع إلى المشركين، وإلى الناس بالجملة، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجّمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل من يتخوّض في هذه الأشياء. وقال ابن عطية: وسمعت أبي رضي الله عنه يقول: سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن معاذ المهدويّ بالمهدية يقول: سمعت عبد الحق الصقليّ يقول هذا القول، ويتأوّل هذا التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين. قال ابن عطية وأقول: إن الغرض المقصود أولاً بالآية هم إبليس وذريته وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب والمعظمين للجن حين يقولون: أعوذ بعزيز هذا الوادي إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الأوّل بالمضلّين وتندرج هذه الطوائف في معناهم. قال الثعلبي: وقال بعض أهل العلم «مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ» ردّ على المنجّمين أن قالوا: إنّ الأفلاك تُحدث في الأرض وفي بعضها في بعض، وقوله: «والأرضِ» ردّ على أصحاب الهندسة حيث قالوا: إن الأرض كريّة والأفلاك تجري تحتها، والناس ملصَقون عليها وتحتها، وقوله: «ولا خلق أنفسهم» ردّ على الطبائعيين حيث زعموا أن الطبائع هي الفاعلة في النفوس. وقرأ أبو جعفر «ما أشهدناهم» بالنون والألف على التعظيم. الباقون بالتاء بدليل قوله: «وما كنت متخذ» يعني ما استعنتهم على خلق السموات والأرض ولا شاورتهم. { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ } يعني الشياطين. وقيل: الكفار. { عَضُداً } أي أعواناً. يقال: اعتضدتُ بفلان إذا استعنتَ به وتقويتَ. والأصل فيه عضد اليد، ثم يوضع موضع العون لأن اليد قوامها العضد. يقال: عَضَده وعَاضَدَه على كذا إذا أعانه وأعزّه. ومنه قوله:سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [القصص: 35] أي سنعينك بأخيك. ولفظ العضد على جهة المثَل، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخصّ المضلّين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ. وقرأ أبو جعفر الجَحْدَريّ «وَمَا كُنْتَ» بفتح التاء أي وما كنت يا محمد متخذ المضلّين عضدا. وفي عضد ثمانية أوجه: «عَضُداً» بفتح العين وضم الضاد وهي قراءة الجمهور، وهي أفصحها. و«عَضْداً» بفتح العين وإسكان الضاد، وهي لغة بني تميم. و«عُضُداً» بضم العين والضاد، وهي قراءة أبي عمرو والحسن. و«عُضْداً» بضم العين وإسكان الضاد، وهي قراءة عكرمة. و«عِضَداً» بكسر العين وفتح الضاد، وهي قراءة الضحاك.

السابقالتالي
2