الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }

قوله تعالى: { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } هذا مثل قوله { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } في سورة «الأنعام» وقد مضى الكلام فيه. وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: جاءت المؤلّفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن حِصْن والأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيّت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم ـ يعنون سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها ـ جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى: { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } حتى بلغ ـ { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا }. يتهددهم بالنار. فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله قال: " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات " { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي طاعته. وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن «ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغدوة والعشيّ» وحجتهم أنها في السواد بالواو. وقال أبو جعفر النحاس: وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول الغدوة لأنها معروفة. وروي عن الحسن «ولا تعدّ عينيك عنهم» أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أبناء الدنيا طلباً لزينتها حكاه اليزيدي. وقيل: لا تحتقرهم عيناك كما يقال فلان تنبو عنه العين أي مستحقراً. { تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي تتزيّن بمجالسة هؤلاء الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسك ولم يرد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، ولكنّ الله نهاه عن أن يفعله، وليس هذا بأكثر من قوله:لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65]. وإن كان الله أعاذه من الشرك. و«تريد» فعل مضارع في موضع الحال أي لا تعد عيناك مريداً كقول امرىء القيس:
فقلتُ له لا تبْكِ عَيْنُك إنما   نحاول مُلْكا أو نموتَ فنُعْذَرَا
وزعم بعضهم أن حق الكلام: لا تعد عينيك عنهم لأن «تعد» متعدّ بنفسه. قيل له: والذي وردت به التلاوة من رفع العينين يؤول إلى معنى النصب فيهما، إذ كان لا تعد عيناك عنهم بمنزلة لا تنصرف عيناك عنهم، ومعنى لا تنصرف عيناك عنهم لا تصرف عينيك عنهم فالفعل مسند إلى العينين وهو في الحقيقة موجّه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ } [التوبة: 55] فأسند الإعجاب إلى الأموال، والمعنى: لا تعجبك يا محمد أموالهم.

السابقالتالي
2