الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } * { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً }

قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } البعث: التحريك عن سكون. والمعنى: كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلّبناهم بعثناهم أيضاً أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليه من هيئاتهم في ثيابهم وأحوالهم. قال الشاعر:
وفِتْيَانِ صِدْق قد بَعثْتُ بسُحْرَةٍ   فقاموا جميعاً بين عاثٍ ونَشْوانِ
أي أيقظت. واللام في قوله «ليتساءلوا» لام الصيرورة وهي لام العاقبة كقوله: { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } فبعْثُهم لم يكن لأجل تساؤلهم. قوله تعالى: { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وذلك أنهم دخلوه غُدوةً وبعثهم الله في آخر النهار فقال رئيسهم تمليخا أو مكسلمينا: الله أعلم بالمدّة. قوله تعالى: { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ } فيه سبع مسائل: الأولى: قال ابن عباس: كانت ورقهم كأخفاف الرُّبع ذكره النحاس. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائيّ وحفص عن عاصم «بورقكم» بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم «بورقكم» بسكون الراء، حذفوا الكسرة لثقلها، وهما لغتان. وقرأ الزجاج «بوِرْقكم» بكسر الواو وسكون الراء. ويروى أنهم انتبهوا جياعاً، وأن المبعوث هو تمليخا، كان أصغرهم فيما ذكر الغزنويّ. والمدينة: أفْسُوس ويقال هي طَرسوس، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس فلما جاء الاسلام سمّوها طرسوس. وقال ابن عباس: كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم. الثانية: قوله تعالى: { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً } قال ابن عباس: أحلّ ذبيحةً لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم. ابن عباس: كان عامتهم مجوساً. وقيل: «أزكى طعاماً» أي أكثر بركة. قيل: إنهم أمروه أن يشتري ما يُظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يُطلّع عليهم، ثم إذا طبخ كفى جماعة ولهذا قيل ذلك الطعام الأرز. وقيل: كان زبيباً. وقيل تمراً فالله أعلم. وقيل: «أزكى» أطيب. وقيل: أرخص. { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } أي بقُوت. { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي في دخول المدينة وشراء الطعام. { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } أي لا يخبرنّ. وقيل: إن ظُهر عليه فلا يوقعنّ إخوانه فيما وقع فيه. { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } قال الزجاج: معناه بالحجارة، وهو أخبث القتل. وقيل: يرموكم بالسب والشتم والأوّل أصح، لأنه كان عازماً على قتلهم كما تقدّم في قصصهم. والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله عقوبة مخالفة دين الناس إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدِّين من حيث إنهم يشتركون فيها. الثالثة: في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها. وقد وكّل عليّ بن أبي طالب أخاه عقيلاً عند عثمان رضي الله عنهما ولا خلاف فيها في الجملة. والوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام ألا ترى إلى عبد الرحمن بن عوف كيف وكّل أميّة بن خلف بأهله وحاشيته بمكة أي يحفظهم، وأمية مشرك، والتزم عبد الرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاةً لصنعه.

السابقالتالي
2 3