الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } * { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }

قوله تعالى: { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ } أي ترى أيّها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم. والمعنى: إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا لا أن المخاطب رآهم على التحقيق. و «تزاور» تتنحّى وتميل من الازورار. والزور المَيَل. والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية، ويستعمل في غير العين كما قال ابن أبي ربيعة:
وجنبـي خيفـةَ القـوم أزْوَرُ   
ومن اللفظة قول عنترة:
فازوَرّ مـن وَقْـع القَنَـا بلبَانـه   
وفي حديث غزوة مؤتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سرير جعفر وزيد بن حارثة. وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو «تزاور» بإدغام التاء في الزاي، والأصل «تتزاور»، وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ «تزاور» مخففة الزاي. وقرأ ابن عامر «تزورّ» مثل تحمر. وحكى الفراء «تزوارّ» مثل تحمار كلُّها بمعنًى واحد. { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ } قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم قاله مجاهد. وقال قتادة: تدعهم. النحاس: وهذا معروف في اللغة، حكى البصريون أنه يقال: قرضه يقرضه إذا تركه والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمس ألبتة كرامةً لهم وهو قول ابن عباس. يعني أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الكهف، وإذا غربت تمرّ بهم ذات الشمال، أي شمال الكهف، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار. وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعةً وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرّها، وتغيّر ألوانهم وتبلي ثيابهم. وقد قيل: إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدُّبور وهم في زاويته. وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وقرأت فرقة «يقرضهم» بالياء من القرض وهو القطع، أي يقطعهم الكهف بظلّه من ضوء الشمس. وقيل: «وإذا غربت تقرضهم» أي يصيبهم يسير منها، مأخوذ من قُراضة الذهب والفضة، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها. وقالوا: كان في مَسِّها لهم بالعشيّ إصلاح لأجسادهم. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذّون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار. وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر. والمقصود بيان حفظهم عن تطرّق البلاء وتغيّر الأبدان والألوان إليهم، والتأذّي بحر أو برد. { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } أي من الكهف. والفجوة المتّسع، وجمعها فجوات وفجاء مثل ركوة وركاء وركوات. وقال الشاعر:
ونحن ملأنا كلّ واد وفجوة   رجالاً وخيلاً غيرَ ميل ولا عُزْل
أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء. { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } لطف بهم، وهذا يقوّي قول الزجاج.

السابقالتالي
2 3 4