الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً }

فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ } «من» للتبعيض. والفاء في قوله «فتهجّد» ناسقة على مضمر، أي قم فتهجد. { بِهِ } أي بالقرآن. والتَّهَجُّد من الهجود وهو من الأضداد. يقال: هجد نام، وهجد سهر على الضد. قال الشاعر:
ألا زارَتْ وأهلُ مِنًى هجود   وليْت خيالها بمنًى يعود
آخر:
ألاَ طرقتنا والرّفاق هجود   فباتت بِعَلاّت النوال تجود
يعني نِياماً. وهجد وتهجد بمعنًى. وهجّدته أي أنمته، وهجدته أي أيقظته. والتهجّد التيقظ بعد رَقْدة، فصار اسما للصلاة لأنه ينتبه لها. فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم. قال معناه الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهم. وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كلّه أنه قد تهجد! إنما التهجد الصلاة بعد رقْدة ثم الصلاة بعد رقْدة ثم الصلاة بعد رقدة. كذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الهجود النوم. يقال: تهجد الرجل إذا سَهِر، وألقى الهجود وهو النوم. ويسمى من قام إلى الصلاة متهجدا لأن المتهجد هو الذي يُلقي الهجود الذي هو النوم عن نفسه. وهذا الفعل جارٍ مجرى تحوّب وتحرّج وتأثّم وتحنّث وتقذّر وتنجّس إذا ألقى ذلك عن نفسه. ومثله قوله تعالى:فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [الواقعة: 65] معناه تندّمون أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، وهي انبساط النفوس وسرورها. يقال رجل فَكِه إذا كان كثير السرور والضحك. والمعنى في الآية: ووقتا من الليل أسهرته في صلاة وقراءة. الثانية: قوله تعالى: { نَافِلَةً لَّكَ } أي كرامة لك قاله مقاتل. واختلف العلماء في تخصيص النبيّ صلى الله عليه وسلم بالذكر دون أمته فقيل: كانت صلاة الليل فريضة عليه لقوله: «نافلة لك» أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة. قلت: وفي هذا التأويل بعدٌ لوجهين: أحدهما: تسمية الفرض بالنفل، وذلك مجاز لا حقيقة. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: " خمس صلوات فرضهن الله على العباد " ، وقوله تعالى: " هن خمس وهن خمسون لا يبدّل القول لَدَيَّ " وهذا نص، فكيف يقال افترض عليه صلاة زائدة على الخمس، هذا ما لا يصح، وإن كان قد روي عنه عليه السلام: " ثلاث عليّ فريضة ولأمتي تطوع قيام الليل والوتر والسّواك " وقيل: كانت صلاة الليل تطوعاً منه وكانت في الابتداء واجبة على الكل، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة، كما قالت عائشة، على ما يأتي مبيّناً في سورة «المزمّل» إن شاء الله تعالى. وعلى هذا يكون الأمر بالتنفل على جهة الندب ويكون الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنه مغفور له.

السابقالتالي
2 3 4