الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }

فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } الآية. لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضاً. «كرمنا» تضعيف كرم أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا. وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال. وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره. وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان، ويلبسون الثياب ويأكلون المركّبات من الأطعمة. وغاية كلّ حيوان يأكل لحما نيئاً أو طعاما غير مركّب. وحكى الطبريّ عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم. وروي عن ابن عباس ذكره المهدويّ والنحاس وهو قول الكلبيّ ومقاتل ذكره الماورديّ. وقال الضحاك: كرّمهم بالنطق والتمييز. عطاء: كرّمهم بتعديل القامة وامتدادها. يمان: بحسن الصورة. محمد بن كعب: بأن جعل محمداً صلى الله عليه وسلم منهم. وقيل: أكرم الرجال باللِّحَى والنساء بالذوائب. وقال محمد بن جرير الطبريّ: بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم. وقيل: بالكلام والخط. وقيل: بالفهم والتمييز. والصحيح الذي يعوّل عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يُعرف الله ويُفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بُعثت الرسل وأنزلت الكتب. فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء. وما تقدّم من الأقوال بعضه أقوى من بعض. وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالاً يفضل بها ابن آدم أيضاً كجري الفرس وسمعه وإبصاره، وقوّة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك. وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه. والله أعلم. الثانية: قالت فرقة: هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الإنس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى:وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [النساء: 171]. وهذا غير لازم من الآية، بل التفضيل فيها بين الإنس والجن فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما خصهم به من سائر الحيوان، والجن هو الكثير المفضول، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول، ولم تتعرض الآية لذكرهم، بل يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع. وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض إذ في الخبر: " لا تُخايروا بين الأنبياء ولا تفضّلوني على يونس بن مَتَّى "

السابقالتالي
2