الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } * { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً }

قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } تقدّم ذكر كَوْنِ الشيطان عدوّ الإنسان، فانجرّ الكلام إلى ذكر آدم. والمعنى: اذكر بتمادي هؤلاء المشركين وعتوّهم على ربهم قصة إبليس حين عصى ربه وأبَى السجود، وقال ما قال، وهو ما أخبر الله تعالى في قوله تعالى: { فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } أي من طين. وهذا استفهام إنكار. وقد تقدّم القول في خلق آدم في «البقرة، والأنعام» مستوفًى. { قَالَ أَرَأَيْتَكَ } أي قال إبليس. والكاف توكيد للمخاطبة. { هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } أي فضّلته عليّ. ورأى جوهر النار خيراً من جوهر الطين ولم يعلم أن الجواهر متماثلة. وقد تقدّم هذا في الأعراف. و«هذا» نصب بأرأيت. «الذي» نعته. والإكرام: اسم جامع لكل ما يحمد. وفي الكلام حذف تقديره: أخبرني عن هذا الذي فضلته عليّ، لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟ فحذف لعلم السامع. وقيل: لا حاجة إلى تقدير الحذف، أي أترى هذا الذي كرمته عليّ لأفعلن به كذا وكذا. ومعنى { لأَحْتَنِكَنَّ } في قول ابن عباس: لأستولِيَنّ عليهم. وقاله الفراء. مجاهد: لأحتوِيَنّهم. ابن زيد: لأضلنهم. والمعنى متقارب، أي لأستأصلنّ ذريته بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنّهم. وروي عن العرب: احْتَنَك الجراد الزرع إذا ذهب به كلّه. وقيل: معناه لأسوقنهم حيث شئت وأقودَنّهم حيث أردت. من قولهم: حنكت الفرس أحنِكه وأحنُكه حنكا إذا جعلت في فيه الرّسن. وكذلك احتنكه. والقول الأوّل قريب من هذا، لأنه إنما يأتي على الزرع بالحَنَك. وقال الشاعر:
أشكو إليك سَنَةً قد أجحفت   جهدا إلى جهدٍ بنا وأضعفت
وٱحتنكت أموالنا واجتلفت   
{ إَلاَّ قَلِيلاً } يعني المعصومين، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وإنما قال إبليس ذلك ظنا، كما قال الله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } أو علم من طبع البشر تركّب الشهوة فيهم، أو بنى على قول الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا }. وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم عليه السلام فلم يجد له عَزْماً.