الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } * { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً }

قوله تعالى: { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } أي قل لهم يا محمد كونوا على جهة التعجيز حجارة أو حديداً في الشدّة والقوة. قال الطبري: أي إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاماً ولحماً فكونوا أنتم حجارة أو حديداً إن قَدرتم. وقال عليّ بن عيسى: معناه أنكم لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم إلا أنه خرج مخرج الأمر، لأنه أبلغ في الإلزام. وقيل: معناه لو كنتم حجارة أو حديداً لأعادكم كما بدأكم، ولأماتكم ثم أحياكم. وقال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون. النحاس: وهذا قول حسن لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا حجارة، وإنما المعنى أنهم قد أقرّوا بخالقهم وأنكروا البعث فقيل لهم استشعروا أن تكونوا ما شئتم، فلو كنتم حجارة أو حديداً لبُعثتم كما خُلقتم أوّل مرة. { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } قال مجاهد: يعني السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس. وهو معنى قول قتادة. يقول: كونوا ما شئتم، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم. وقال ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن جُبير ومجاهد أيضاً وعكرمة وأبو صالح والضحاك: يعني الموت لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه قال أُمَيّة بن أبي الصلت:
وللمَوْتُ خَلْق في النفوس فظيع   
يقول: إنكم لو خُلقتم من حجارة أو حديد أو كنتم الموت لأميتَنّكم ولأبعثنكم لأن القدرة التي بها أنشأتكم بها نعيدكم. وهو معنى قوله: { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }. وفي الحديث أنه: " يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كَبْش أمْلَحَ فيذبح بين الجنة والنار " وقيل: أراد به البعث لأنه كان أكبر في صدورهم قاله الكلبي. { فَطَرَكُمْ } خلقكم وأنشأكم. { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } أي يحرّكون رؤوسهم استهزاء يقال: نَغَضَ رأسُه يَنْغُض ويَنْغِض نَغْضاً ونُغوضاً أي تحرّك. وأنغض رأسه أي حركه، كالمتعجب من الشيء ومنه قوله تعالى: { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ }. قال الراجز:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا   
ويقال أيضاً: نغض فلان رأسه أي حرّكه يتعدّى ولا يتعدّى، حكاه الأخفش. ويقال: نَغَضت سِنّه أي تحركت وانقلعت. قال الراجز:
ونغضت من هَرَم أسنانها   
وقال آخر:
لما رأتني أنغضتْ لِي الرأسا   
وقال آخر:
لا ماء في المَقْرَاة إن لم تنهضِ   بمَسَدٍ فوق المَحالِ النُّغَّض
المحال والمحالة: البكرة العظيمة التي يستقَى بها الإبل. { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ } أي البعث والإعادة وهذا الوقت. { قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً } أي هو قريب لأن عسى واجب نظيرهوَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [الأحزاب: 63]. ولَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى: 17]. وكل ما هو آت فهو قريب.