الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }

قوله تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } أعاد على السموات والأرض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح. وقوله: { وَمَن فِيهِنَّ } يريد الملائكة والإنس والجن، ثم عمّ بعد ذلك الأشياء كلّها في قوله: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ }. واختلف في هذا العموم، هل هو مخصّص أم لا فقالت فرقة: ليس مخصوصاً والمراد به تسبيح الدلالة، وكل محدَث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكلّ شيء على العموم يسبّح تسبيحاً لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الأوّلون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمراً مفهوماً، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يُفقه. وأجيبوا بأن المراد بقوله: «لا تفقهون» الكفارُ الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء. وقالت فرقة: قوله: «مِنْ شَيْءٍ» عموم، ومعناه الخصوص في كل حَيٍّ ونامٍ، وليس ذلك في الجمادات. ومن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبّح. وقال يزيد الرِّقَاشِيّ للحسن وهما في طعام وقد قُدِّم الخِوان: أيسبّح هذا الخِوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرّة يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبّح، وأما الآن فقد صار خِواناً مدهوناً. قلت: ويستدلّ لهذا القول من السُّنّة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ على قبرين فقال: إنهما لَيُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنَّميمة وأما الآخر فكان لا يستبرىء من البول قال: فدعا بِعَسيب رَطْب فشقّه ٱثنين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال: لعلّه يخفّف عنهما ما لم يَيْبَسَا " فقوله عليه الصلاة والسلام. " ما لم ييبسا " إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبّحان، فإذا يبسا صارا جماداً. والله أعلم. وفي مسند أبي داود الطّيالسي: " فوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفاً وقال: «لعله أن يهوّن عليهما العذاب ما دام فيهما من بلولتهما شيء» " قال علماؤنا: ويستفاد من هذا غرس الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خُفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن. وقد بينا هذا المعنى في كتاب التذكرة بياناً شافياً، وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يُهْدَى إليه. والحمد لله على ذلك. وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك فإن كل شيء من الجماد وغيره يسبح. قلت: ويستدلّ لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى:وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ }

السابقالتالي
2