الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } * { كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً }

فيه خمس مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً } هذا نَهْيٌ عن الخُيَلاء وأمرٌ بالتواضع. والمَرَح: شدّة الفرح. وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقال قتادة: هو الخيلاء في المشي. وقيل: هو البطر والأَشَر. وقيل: هو النشاط. وهذه الأقوال متقاربة ولكنها منقسمة قسمين: أحدهما مذموم والآخر محمود فالتكبّر والبَطَر والخُيَلاء وتجاوز الإنسان قدره مذموم والفرح والنشاط محمود. وقد وصف الله تعالى نفسه بأحدهما ففي الحديث الصحيح: " لَلَّهُ أفرح بتوبة العبد من رجل... " الحديث. والكسل مذموم شرعاً والنشاط ضدّه. وقد يكون التكبر وما في معناه محموداً، وذلك على أعداء الله والظلمة. أسند أبو حاتم محمد بن حِبّان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مِن الغَيْرة ما يبغض الله عز وجل ومنها ما يحب الله عز وجل ومن الخُيَلاء ما يحب الله عز وجل ومنها ما يبغض الله فأما الغيرة التي يحب الله الغَيْرَةُ في الدِّين والغيرة التي يبغض الله الغيرةُ في غير دينه والخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة والاختيال الذي يبغض الله الخيلاء في الباطل " وأخرجه أبو داود في مصنَّفه وغيره. وأنشدوا:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً   فكم تحتها قوم همو منك أرفع
وإن كنتَ في عزٍّ وحِرْز ومَنْعة   فكم مات من قوم همو منك أمنع
الثانية: إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفُّعاً دون حاجة إلى ذلك داخل في هذه الآية، وفيه تعذيب الحيوان وإجراؤه لغير معنًى. وأما الرجل يستريح في اليوم النادر والساعة من يومه، يجُمّ فيها نفسه في التطرّح والراحة ليستعين بذلك على شغل من البر، كقراءة علم أو صلاة، فليس بداخل في هذه الآية. قوله تعالى: { مَرَحاً } قراءة الجمهور بفتح الراء. وقراءة فرقة فيما حكى يعقوب بكسر الراء على بناء ٱسم الفاعل. والأوّل أبلغ، فإن قولك: جاء زيد ركْضاً أبلغ من قولك: جاء زيد راكضاً فكذلك قولك مَرَحاً. والمرح المصدر أبلغ من أن يقال مَرِحاً. الثالثة: قوله تعالى: { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ } يعني لن تتولّج باطنها فتعلم ما فيها { وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } أي لن تساوي الجبال بطولك ولا تطاولك. ويقال: خرق الثوب أي شقه، وخرق الأرض قطعها. والخَرْق: الواسع من الأرض. أي لن تخرق الأرض بكبرك ومشيك عليها. { وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } بعظمتك، أي بقدرتك لا تبلغ هذا المبلغ، بل أنت عبد ذليل، محاط بك من تحتك ومن فوقك، والمحاط محصور ضعيف فلا يليق بك التكبر. والمراد بخرق الأرض هنا نقبها لا قطعها بالمسافة والله أعلم. وقال الأزهري: معناه لن تقطعها.

السابقالتالي
2 3