الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }

فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: { وَلاَ تَقْفُ } أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يَعْنِيكَ. قال قتادة: لا تقل رأيتُ وأنت لم تر، وسمعتُ وأنت لم تسمع، وعلمتُ وأنت لم تعلم وقاله ابن عباس رضي الله عنهما. قال مجاهد: لا تَذُمّ أحداً بما ليس لك به علم وقاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً. وقال محمد بن الحنفية: هي شهادة الزور. وقال القُتَبِيّ: المعنى لا تتبع الحَدْس والظنون وكلها متقاربة. وأصل القَفْو البُهْتُ والقذفُ بالباطل ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " نحن بنو النضر بن كنانة لا نَقفو أُمَّنا ولا ننتفي من أبينا " أي لا نَسُبّ أمنا. وقال الكُمَيت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب   ولا أَقْفُو الحواصن إن قُفينا
يقال: قَفَوْتُه أقْفُوه، وقُفْتُه أَقُوفُه، وقَفّيته إذا ٱتّبَعت أثره. ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كلِّ شيء آخره، ومنه قافية الشِّعر لأنها تقفو البيت. ومنه ٱسم النبيّ صلى الله عليه وسلم المُقَفِّي لأنه جاء آخر الأنبياء. ومنه القائف، وهو الذي يتبع أثر الشّبَه. يقال: قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك. وتقول: فَقَوْت الأثر، بتقديم الفاء على القاف. ابنُ عطية: ويشبه أن يكون هذا من تلعّب العرب في بعض الألفاظ، كما قالوا: رَعَمْلي في لَعَمْرِي. وحكى الطبريّ عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عتا وعات. وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثلُ جَبَذ وجَذَب. وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة. وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي «تَقُفْ» بضم القاف وسكون الفاء. وقرأ الجراح «والفَآد» بفتح الفاء، وهي لغة لبعض الناس، وأنكرها أبو حاتم وغيره. الثانية: قال ابن خُوَيْزِمنداد: تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة لأنه لما قال: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» دلَّ على جواز ما لنا به علم، فكلّ ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به، وبهذا احتججنا على إثبات القُرْعة والخَرْص لأنه ضرب من غلبة الظن، وقد يُسَمَّى علماً ٱتساعاً. فالقائف يُلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وفي الصحيح عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليّ مسروراً تَبْرُق أسارير وجهه فقال: " ألم تَرَىْ أن مُجَزِّزاً نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غَطّيا رؤوسهما وبَدَتْ أقدامهما فقال إن بعض هذه الأقدام لَمن بعض ". وفي حديث يونس بن يزيد: " وكان مُجَزِّز قائفاً ". الثالثة: قال الإمام أبو عبد الله المازَرِي: كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيضَ من القطن، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح.

السابقالتالي
2