الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } * { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }

فيـه ست عشرة مسألة: الأولى ـ { وَقَضَىٰ } أي أمر وألزم وأوجب. قال ابن عباس والحسن وقتادة: وليس هذا قضاء حُكْم بل هو قضاء أمر. وفي مصحف ابن مسعود «ووصَّى» وهي قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضاً وعليّ وغيرهما، وكذلك عند أُبَيّ بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو «ووصى ربك» فالتصقت إحدى الواوين فقرئت «وقضى ربك» إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد. وقال الضحاك: تصحفت على قوم «وصى بقضى» حين اختلطت الواو بالصاد وقت كَتْب المصحف. وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثلَ قول الضحاك. وقال عن ميمون بن مهْران أنه قال: إن على قول ابن عباس لنورا قال الله تعالى: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } ثم أبى أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك. وقال: لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، ثم قال علماؤنا المتكلمون وغيرهم القضاء يستعمل في اللغة على وجوه: فالقضاء بمعنى الأمر كقوله تعالى: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } معناه أمر. والقضاء بمعنى الخلق كقوله تعالى:فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 12] يعني خلقهن. والقضاء بمعنى الحكم كقوله تعالى:فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } [طه: 72] يعني احكم ما أنت تحكم. والقضاء بمعنى الفراغ كقوله:قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [يوسف: 41] أي فُرغ منه ومنه قوله تعالىفَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } [البقرة: 200]. وقوله تعالى:فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ } [الجمعة: 10]. والقضاء بمعنى الإرادة كقوله تعالى:إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 47]. والقضاء بمعنى العهد كقوله تعالى:وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ } [القصص: 44]. فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله لأنه إن أريد به الأمر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك، لأن الله تعالى لم يأمر بها، فإنه لا يأمر بالفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلّق امرأته ثلاثا. فقال: إنك قد عصيت ربك وبانَتْ منك. فقال الرجل: قضى الله ذلك علي فقال الحسن وكان فصيحاً: ما قضى الله ذلك! أي ما أمر الله به، وقرأ هذه الآية: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ }. الثانية ـ أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل برّ الوالدين مقروناً بذلك، كما قَرَن شكرهما بشكره فقال: «وقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاّ إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً». وقال:أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان: 14]. وفي صحيح البخاريّ " عن عبد الله قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أيّ العمل أحبّ إلى الله عز وجل؟ قال: «الصلاة على وقتها» قال: ثم أيّ؟ قال: «ثم بِرُّ الوالدين» قال ثم أيّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» "

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8