الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }

فيه ثلاث مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ } لفظٌ عام لجميع ما يُعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة. وهذه الآية مضمّن قوله { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } لأن المعنى فيها: افعلوا كذا، وانتهوا عن كذا فعطف على ذلك التقدير. وقد قيل: إنها نزلت في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم على الإسلام. وقيل: نزلت في التزام الحِلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء به قاله قتادة ومجاهد وٱبن زيد. والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جُبير بن مُطْعِم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حِلْف في الإسلام وأيُّما حِلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة " يعني في نصرة الحق والقيام به والمواساة. وهذا كنحو حِلف الفُضُول الذي ذكره ٱبن إسحاق قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جُدْعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى تُرَدّ عليه مَظْلِمته فسمت قريش ذلك الحِلف حِلْفَ الفضول، أي حلف الفضائل. والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس. روى ٱبن إسحاق عن ٱبن شهاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدْعانِ حلفاً ما أحِبّ أن لي به حُمْر النَّعَم لو أدعى به في الإسلام لأجبت " وقال ٱبن إسحاق: تحامل الوليد بن عُتبة على حسين بن عليّ في مال له، لسلطان الوليد فإنه كان أميراً على المدينة فقال له حسين بن عليّ: أحلِفُ بالله لَتُنْصِفَنّي من حقي أو لآخذنّ سيفي ثم لأقومنّ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعونّ بحِلف الفضول. قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف والله لئن دعانا لآخذن سيفي ثم لأقومنّ معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعاً. وبلغت المِسْوَرَ بن مَخْرمة فقال مثل ذلك. وبلغت عبدَ الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليدَ أنصفه. قال العلماء: فهذا الحِلف الذي كان في الجاهلية هو الذي شدّه الإسلام وخصّه النبيّ عليه الصلاة والسلام من عموم قوله: " لا حِلْف في الإسلام " والحكمة في ذلك أن الشرع جاء بالانتصار من الظالم وأخذ الحق منه وإيصاله إلى المظلوم، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجاباً عاماً على من قدر من المكلّفين، وجعل لهم السبيل على الظالمين فقال تعالى:إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

السابقالتالي
2