الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ }

فيه عشر مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { جَعَلَ لَكُمْ } معناه صيّر. وكلُّ ما علاك فأظلّك فهو سقف وسماء، وكل ما أَقَلّك فهو أرض، وكلُّ ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار فإذا انتظمتْ وٱتصلت فهو بيت. وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس في البيوت، فذكر أولا بيوت المدن وهي التي للإقامة الطويلة. وقوله: { سَكَناً } أي تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة، وقد تتحرك فيه وتسكن في غيره إلا أن القول خرج على الغالب. وعدّ هذا في جملة النعم فإنه لو شاء خلق العبد مضطرباً أبداً كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد، ولو خلقه ساكناً كالأرض لكان كما خلق وأراد، ولكنه أوجده خلقاً يتصرّف للوجهين، ويختلف حاله بين الحالتين، وردّده كيف وأين. والسَّكَن مصدر يوصف به الواحد والجمع. ثم ذكر تعالى بيوت النقلة والرِّحلة وهي: الثانية ـ فقال: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا } أي من الأنطاع والأَدم. { بُيُوتاً } يعني الخيام والقِباب يَخفّ عليكم حملها في الأسفار. { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } الظّعن: سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع ومنه قول عنترة:
ظعن الذين فراقَهم أتوقّع   وجرى ببينهم الغراب الأبقع
والظعن الهودج أيضاً قال:
ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا   وإذ جادت بوشك البين غربان
وقرىء بإسكان العين وفتحها كالشَّعْر والشَّعَر. وقيل: يحتمل أن يعم به بيوت الأَدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف لأن هذه من الجلود لكونها ثابتة فيها نحا إلى ذلك ابن سَلام. وهو احتمال حسن، ويكون قوله: «ومنْ أَصْوَافِهَا» ابتداء كلام، كأنه قال: جعل أثاثاً يريد الملابس والوطاء، وغير ذلك قال الشاعر:
أهاجتك الظعائن يوم بانوا   بذي الزِّيّ الجميل من الأثاث
ويحتمل أن يريد بقوله: { مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ } بيوت الأَدَم فقط كما قدمناه أولاً. ويكون قوله: «ومن أصوافها» عطفاً على قوله: «من جلود الأنعام» أي جعل بيوتاً أيضاً. قال ابن العربي: «وهذا أمر انتشر في تلك الديار، وعَزَبت عنه بلادنا، فلا تُضرب الأخبِيَة عندنا إلاّ من الكَتّان والصوف، وقد كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم قُبّة من أَدَم، وناهيك من أدم الطائف غلاء في القيمة، واعتلاء في الصنعة، وحسنا في البشرة، ولم يعدّ ذلك صلى الله عليه وسلم تَرفا ولا رآه سرفاً لأنه مما امتن الله سبحانه من نعمته وأذن فيه من متاعه، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان. ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض المحدثين، فدخلنا عليه في خباء كَتّان فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفاً، وقال: إن هذا موضع يكثر فيه الحَرّ والبيت أرفق بك وأطيب لنفسي فيك فقال: هذا الخباء لنا كثير، وكان في صنعنا من الحقير فقلت: ليس كما زعمت! فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الزهاد قُبّة من أَدَم طائفيّ يسافر معها ويستظلّ بها فُبهت، ورأيته على منزلة من العيّ فتركته مع صاحبي وخرجت عنه».

السابقالتالي
2 3 4 5