الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

فيه خمس مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً } نبّه تعالى على ضلالة المشركين، وهو منتظم بما قبله من ذكر نعم الله عليهم وعدم مثل ذلك من آلهتهم. «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً» أي بيّن شبها ثم ذكر ذلك فقال: { عَبْداً مَّمْلُوكاً } أي كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجلٌ حُرٌّ قد رزق رزقاً حسناً فكذلك أنا وهذه الأصنام. فالذي هو مثالٌ في هذه الآية هو عبد بهذه الصفة مملوك لا يقدر على شيء من المال ولا من أمر نفسه، وإنما هو مسخَّر بإرادة سيده. ولا يلزم من الآية أن العبيد كلهم بهذه الصفة فإن النكرة في الإثبات لا تقتضي الشمول عند أهل اللسان كما تقدم، وإنما تفيد واحداً، فإذا كانت بعد أمر أو نهي أو مضافة إلى مصدر كانت للعموم الشيوعي كقوله: أعتق رجلاً ولا تهن رجلاً، والمصدر كاعتاق رقبة، فأيّ رجل أعتق فقد خرج عن عهدة الخطاب، ويصح منه الاستثناء. وقال قتادة: هذا المثل للمؤمن والكافر فذهب قتادة إلى أن العبد المملوك وهو الكافر لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عبادته، وإلى أن معنى «وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً» المؤمن. والأول عليه الجمهور من أهل العلم والتأويل. قال الأَصَمّ: المراد بالعبد المملوك الذي ربما يكون أشدّ من مولاه أسْراً وأنضر وجهاً، وهو لسيده ذليل لا يقدر إلا على ما أذن له فيه فقال الله تعالى ضرباً للمثال. أي فإذا كان هذا شأنكم وشأن عبيدكم فكيف جَعلتم أحجاراً مواتاً شركاء لله تعالى في خلقه وعبادته، وهي لا تعقل ولا تسمع. الثانية: فهم المسلمون من هذه الآية ومما قبلها نقصان رتبة العبد عن الحر في الملك، وأنه لا يملك شيئاً وإن مُلِّك. قال أهل العراق: الرِّق ينافي الملك، فلا يملك شيئاً ألْبَتَّةَ بحال، وهو قول الشافعيّ في الجديد، وبه قال الحسن وابن سِيرين. ومنهم من قال: يملك إلا أنه ناقص الملك، لأن لسيده أن ينتزعه منه أي وقت شاء، وهو قول مالك ومن اتبعه، وبه قال الشافعيّ في القديم. وهو قول أهل الظاهر ولهذا قال أصحابنا: لا تجب عليه عبادة الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك. وفائدة هذه المسألة أن سيده لو مَلّكه جارية جاز له أن يطأها بملك اليمين، ولو ملكه أربعين من الغنم فحال عليها الحول لم تجب على السيد زكاتها لأنها ملك غيره، ولا على العبد لأن ملكه غير مستقر. والعراقيّ يقول: لا يجوز له أن يطأ الجارية، والزكاة في النصاب واجبة على السيد كما كانت.

السابقالتالي
2