الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ }

قوله تعالى: { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } جعل بمعنى خلق وقد تقدم. { مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } يعني آدم خلق منه حواء. وقيل: المعنى جعل لكم من أنفسكم، أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم كما قال: { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي من الآدميين. وفي هذا ردّ على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوَّج الجن وتباضعها، حتى روي أن عمرو بن هند تزوج منهم غُولاً وكان يخبؤها عن البرق لئلا تراه فتنفر، فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السِّعلاة فقالت: عمرو! ونفرت، فلم يرها أبداً. وهذا من أكاذيبها، وإن كان جائزاً في حكم الله وحكمته فهو ردّ على الفلاسفة الذين ينكرون وجود الجانّ ويحيلون طعامهم. { أَزْوَاجاً } زوج الرجل هي ثانيته، فإنه فرد فإذا انضافت إليه كانا زوجين، وإنما جعلت الإضافة إليه دونها لأنه أصلها في الوجود كما تقدم. قوله تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } فيه خمس مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ } ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، ووجود الأبناء يكون منهما معاً ولكنه لما كان خلق المولود فيها وانفصاله عنها أضيف إليها، ولذلك تبعها في الرّق والحرية وصار مثلها في المالية. قال ابن العربيّ: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلأجل ذلك تبعها. كما لو أكل رجل تمراً في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها. الثانية ـ قوله تعالى: { وَحَفَدَةً } روى ابن القاسم عن مالك قال وسألته عن قوله تعالى: { بَنِينَ وَحَفَدَةً } قال: الحَفَدة الخدم والأعوان في رأيي. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَحَفَدَةً } قال هم الأعوان، من أعانك فقد حفدك. قيل له: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم وتقوله! أو ما سمعت قول الشاعر:
حَفَد الولائدُ حولهن وأسلَمتْ   بأكفّهنّ أزِمّةَ الأجمال
أي أسرعن الخدمة. والولائد: الخدم، الواحدة وليدة قال الأعشى:
كلّفت مجهولها نُوقاً يمانية   إذا الحُداة على أكسائها حَفَدُوا
أي أسرعوا. وقال ابن عرفة: الحفدة عند العرب الأعوان، فكل من عمل عملاً أطاع فيه وسارع فهو حافد، قال: ومنه قولهم «إليك نسعى ونحفِد»، والحَفَدان السرعة. قال أبو عبيد: الحفد العمل والخدمة. وقال الخليل بن أحمد: الحَفَدة عند العرب الخدم، وقاله مجاهد. وقال الأزهري: قيل الحفدة أولاد الأولاد.

السابقالتالي
2 3