الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

قوله تعالى: { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } وذلك أنها إنما تأكل النوّار من الأشجار. { فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } أي طرق ربك. والسّبل: الطرق، وأضافها إليه لأنه خالقها. أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر. { ذُلُلاً } جمع ذلول وهو المنقاد أي مطيعة مسخرة. فـ «ذللاً» حال من النحل. أي تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا قاله ابن زيد. وقيل: المراد بقوله «ذُلُلاً» السبل. واليَعْسُوب سيد النحل، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت. قوله تعالى: { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } فيه تسع مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } رجع الخطاب إلى الخبر على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة فقال: «يخرج من بطونها شراب» يعني العسل. وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل وورد عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقيره للدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعابُ دودة، وأشرب شرابه رَجِيعُ نحلة. فظاهر هذا أنه من غير الفم. وبالجملة فإنه يخرج ولا يدرى من فيها أو أسفلها، ولكن لا يتم صلاحه إلا بحَمْى أنفاسها. وقد صنع أرسطاطاليس بيتاً من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع، فأبت أن تعمل حتى لطخت باطن الزجاج بالطين ذكره الغزنويّ. وقال: «مِن بطونِها» لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن. الثانية ـ قوله تعالى: { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر والجامد والسائل، والأم واحدة والأولاد مختلفون دليل على أن القدرة نوّعته بحسب تنويع الغذاء، كما يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي ومن هذا المعنى قول زينب للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «جَرَسَتْ نحلُه العُرْفُطَ» حين شبهت رائحته برائحة المغافير. الثالثة ـ قوله تعالى: { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } الضمير للعسل قاله الجمهور. أي في العسل شفاء للناس. وروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك والفراء وابن كَيْسان: الضمير للقرآن أي في القرآن شفاء. النحاس: وهذا قول حسن أو فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. وقيل: العسل فيه شفاء، وهذا القول بيّن أيضاً لأن أكثر الأشربة والمعجونات التي يتعالج بها أصلها من العسل. قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: من قال إنه القرآن بعيد ما أراه يصحّ عنهم، ولو صح نقلاً لم يصح عقلاً فإن مساق الكلام كلّه للعسل، ليس للقرآن فيه ذكر. قال ابن عطية: وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية يراد بها أهل البيت وبنو هاشم، وأنهم النحل، وأن الشراب القرآن والحكمة، وقد ذكر هذا بعضهم في مجلس المنصور أبي جعفر العباسيّ، فقال له رجل ممن حضر: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين وبُهِت الآخر وظهرت سخافة قوله.

السابقالتالي
2 3 4 5