الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }

فيه ثلاث مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } قد مضى القول في الوَحْي وأنه قد يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى:وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَافَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7-8]. ومن ذلك البهائم وما يخلق الله سبحانه فيها من درك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها. وقد أخبر عز وجل بذلك عن الموات فقال: { تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا }. قال إبراهيم الحَرْبيّ: لله عز وجل في الموت قدرة لم يُدْرَ ما هي، لم يأتها رسول من عند الله ولكن الله تعالى عرّفها ذلك أي ألهمها. ولا خلاف بين المتأولين أن الوحي هنا بمعنى الإلهام. وقرأ يحيى بن وَثّاب «إلى النَّحَلِ» بفتح الحاء. وسُمِّيَ نحلاً لأن الله عز وجل نحله العسل الذي يخرج منه قاله الزجاج. الجوهريّ: والنحل والنحلة الدّبْر يقع على الذكر والأنثى، حتى يقال: يَعْسُوب. والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. وروي من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الذِّبان كلّها في النار يجعلها عذاباً لأهل النار إلا النحل " ذكره الترمذيّ الحكيم في نوادر الأصول. وروي عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النملة والنحلة والهُدْهُد والصُّرَد، خرّجه أبو داود أيضاً، وسيأتي في «النمل» إن شاء الله تعالى. الثانية ـ قوله تعالى: { أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ } هذا إذا لم يكن لها مليك. { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع، إما في الجبال وكِوَاها، وإما في متجوّف الأشجار، وإما فيما يعرِش ابن آدم من الأجباح والخلايا والحيطان وغيرها. وعرَش معناه هنا هيّأ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، ومن هذا لفظة العرش. يقال: عرش يَعْرِش ويعرُش بكسر الراء وضمها، وقرىء بهما. قرأ ابن عامر بالضم وسائرهم بالكسر، واختلف في ذلك عن عاصم. الثالثة ـ قال ابن العربيّ: ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدّسة، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك أن الأشكال من المثلّث إلى المعشر إذا جُمع كلّ واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فُرج، إلا الشكل المسدّس فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة.