الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ }

فيه عشر مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } قد تقدّم القول في الأنعام، وهي هنا الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز. { لَعِبْرَةً } أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعِبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لنعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنهفَٱعْتَبِرُواْ } [الحشر: 2]. وقال أبو بكر الورّاق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمرّدك على ربك وخلافك له في كل شيء. ومن أعظم العِبَر بريء يحمل مذنباً. الثانية ـ قوله تعالى: { نُّسْقِيكُمْ } قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سَقَى يَسْقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقي يُسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة. قيل: هما لغتان. وقال لَبِيد:
سَقَى قَومِي بني مَجْدٍ وأسقى   نُمَيْراً والقبائلَ من هِلالِ
وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شِرْباً أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته قاله ابن عُزيز، وقد تقدّم. وقرأت فرقة «تسقيكم» بالتاء، وهي ضعيفة، يعني الأنعام. وقرىء بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدّمتين ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حِمير. الثالثة ـ قوله تعالى: { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } اختلف الناس في الضمير من قوله «مما في بطونه» على ماذا يعود. فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. قال ابن العربيّ: وما أراه عوّل عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه. وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الأنعام وهي الأنعام، جاز عود الضمير بالتذكير وقاله الزجاج. وقال الكسائيّ: معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور وقد قال الله تعالى: { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } وقال الشاعر:
مثـل الفِـراخ نُتِفـتْ حـواصلُـه   
ومثله كثير. وقال الكسائيّ: «مما في بطونِه» أي مما في بطون بعضه إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عوّل عليه أبو عبيدة. وقال الفَرّاء: الأنعام والنَّعَم واحد، والنَّعَم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نَعَم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النّعم الذي هو بمعنى الأنعام. قال ابن العربيّ: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكّره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاماً حسناً. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رَمْل يَبْرِين وتَيْهَاء فِلَسْطِين. الرابعة ـ استنبط بعض العلماء الجِلّة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جيء به مذكّراً لأنه راجع إلى ذكر النَّعم لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرّم حين أنكرته عائشة رضي الله عنها في حديث أفْلح أخي أبي القُعَيس

السابقالتالي
2 3 4