الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } * { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } * { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }

قوله تعالى: { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } أي بالسيئات، وهذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام. { أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ } قال ابن عباس: كما خسف بقارون، يقال: خَسفَ المكانُ يخسِف خسوفاً ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفاً أي غاب به فيها ومنه قوله:فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } [القصص:71]. وخَسَف هو في الأرض وخُسِف به. والاستفهام بمعنى الإنكار أي يجب ألا يأمنوا عقوبة تلحقهم كما لحقت المكذبين. { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } كما فعل بقوم لوط وغيرِهم. وقيل: يريد يوم بدر فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن شيء منه في حسابهم. { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ } أي في أسفارهم وتصرفهم قاله قتادة. { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } أي سابقين الله ولا فائتيه. وقيل: «في تَقَلُّبِهِم» على فراشهم أينما كانوا. وقال الضحاك: بالليل والنهار. { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ } قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: أي على تنقّص من أموالهم ومواشيهم وزروعهم. وكذا قال ابن الأعرابي: أي على تنقّص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم كلّهم. وقال الضحاك: هو من الخوف المعنى: يأخذ طائفة ويدع طائفة، فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال الحسن: «على تَخَوُّفٍ» أن يأخذ القرية فتخافه القرية الأخرى، وهذا هو معنى القول الذي قبله بعينه، وهما راجعان إلى المعنى الأوّل، وأن التخوّف التنقص تخوّفه تنقصه، وتخوّفه الدهر وتخوّنه بالفاء والنون بمعنىً يقال: تخوّنني فلان حَقِّي فلان حَقِّي إذا تنقصك. قال ذو الرُّمَّة:
لا، بل هو الشّوْقُ مِن دارٍ تَخوّنها   مَرّاً سحابٌ ومَرّاً بارِحٌ تَرِبُ
وقال لبيد:
تخوّنهـا نزولـي وارتحالـي   
أي تنقص لحمها وشحمها. وقال الهَيْثَم بن عَدِيّ: التخوّف بالفاء التنقص، لغة لأزدِشُنوءة. وأنشد:
تخوّف غَدْرهم مالي وأهْدَى   سلاسلَ في الحلوق لها صليل
وقال سعيد بن المسيِّب: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: يا أيها الناس، ما تقولون في قول الله عز وجل: «أوْ يَأْخُذَهُم على تَخَوُّفٍ» فسكت الناس، فقال شيخ من بني هُذَيل: هي لغتنا يا أمير المؤمنين، التخوّف التنقص. فخرج رجل فقال: يا فلان، ما فعل دَيْنُك؟ قال: تخوّفته، أي تنقّصته فرجع فأخبر عمر فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال نعم قال شاعرنا أبو كبِير الهُذَلِيّ يصف ناقة تنقّص السير سنامها بعد تَمْكِه واكتنازه:
تخوف الرَّجلُ منها تامِكاً قَرِداً   كما تخوف عُودَ النَّبْعة السَّفَنُ
فقال عمر: يأيها الناس، عليكم بديوانكم شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. تَمَك السنام يَتْمِك تَمْكاً، أي طال وارتفع، فهو تامك. والسَّفَن والمسْفن ما يُنْجَر به الخشب. وقال اللّيث بن سعد: «على تخوّفٍ» على عجل. وقيل: على تقريع بما قدّموه من ذنوبهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. وقال قتادة: «على تخوّف» أن يعاقب أو يتجاوز. { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي لا يعاجل بل يمهل.