الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }

قوله تعالى: { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي جبالاً ثابتة. رَسَا يرسو إذا ثبت وأقام. قال:
فصَبَرْتُ عارِفةً لذلك حُرّةً   ترسو إذا نفسُ الجبان تطلَّعُ
{ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي لئلا تَميد عند الكوفيين. وكراهية أن تميد على قول البصريين. والمَيْد: الاضطراب يميناً وشمالاً ماد الشيء يميد ميداً إذا تحرك ومادت الأغصان تمايلت، وماد الرجل تبختر. قال وهب بن مُنَبِّه: خلق الله الأرض فجعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرّة أحداً على ظهرها فأصبحت وقد أرْسِيت بالجبال، ولم تدر الملائكة ممّ خلقت الجبال. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لما خلق الله الأرض قَمَصَت ومالت وقالت: أيْ رَب أتجعل عليّ من يعمل بالمعاصي والخطايا، ويلقي عليّ الجِيف والنّتْن! فأرسى الله تعالى فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون. وروى الترمذيّ في آخر كتاب التفسير حدّثنا محمد بن بشار حدّثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوّام بن حَوْشَب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله الأرض جعلت تَمِيد فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرّت فعجب الملائكة من شدّة الجبال فقالوا يا رَبّ هل مِن خلقك شيء أشدّ من الجبال قال نعم الحديد قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشدّ من الحديد قال نعم النار فقالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشدّ من النار قال نعم الماء قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشدّ من الماء قال نعم الريح قالوا يا رب فهل من خلقك شيء أشدّ من الريح قال نعم ابنُ آدم تصدّق بصدقة بيمينه يخفيها من شماله ". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه. قلت: وفي هذه الآية أدلّ دليل على استعمال الأسباب، وقد كان قادراً على سكونها دون الجبال. وقد تقدّم هذا المعنى. { وَأَنْهَاراً } أي وجعل فيها أنهاراً، أو ألقى فيها أنهاراً. { وَسُبُلاً } أي طُرُقاً ومسالك. { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي إلى حيث تقصِدون من البلاد فلا تضلون ولا تتحيّرون.