الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

فيه تسع مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ } تسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله بالركوب والإِرفاء وغيره، وهذه نعمة من نعم الله علينا، فلو شاء سلطه علينا وأغرقنا. وقد مضى الكلام في البحر وفي صيده. وسماه هنا لحماً واللحوم عند مالك ثلاثة أجناس: فلحم ذوات الأربع جنس، ولحم ذوات الريش جنس، ولحم ذوات الماء جنس. فلا يجوز بيع الجنس من جنسه متفاضلاً، ويجوز بيع لحم البقر والوحش بلحم الطير والسمك متفاضلاً، وكذلك لحم الطير بلحم البقر والوحش والسمك يجوز متفاضلاً. وقال أبو حنيفة: اللحوم كلها أصناف مختلفة كأصولها فلحم البقر صنف، ولحم الغنم صنف، ولحم الإبل صنف، وكذلك الوحش مختلف، وكذلك الطير، وكذلك السمك، وهو أحد قولي الشافعيّ. والقول الآخر أن الكل من النَّعمَ والصيد والطير والسمك جنس واحد لا يجوز التفاضل فيه. والقول الأوّل هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. ودليلنا هو أن الله تعالى فرّق بين أسماء الأنعام في حياتها فقال:ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ } [الأنعام: 143] ثم قال:وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ } [الأنعام: 144] فلما أن أم بالجميع إلى اللحم قال:أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } [المائدة: 1] فجمعها بِلحم واحد لتقارب منافعها كتقارب لحم الضأن والمعز. وقال في موضع آخر:وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } [الواقعة: 21] وهذا جمع طائر الذي هو الواحد، لقوله تعالى:وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38] فجمع لحم الطير كله باسم واحد. وقال هنا: «لَحْماً طَرِيًّا» فجمع أصناف السمك بذكر واحد، فكان صغاره ككباره في الجمع بينهما. وقد روي عن ٱبن عمر أنه سئل عن لحم المَعْز بلحم الكباش أشيء واحد؟ فقال لا ولا مخالف له فصار كالإجماع، والله أعلم. ولا حجة للمخالف في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مِثْلاً بمثل فإن الطعام في الإطلاق يتناول الحنطة وغيرها من المأكولات ولا يتناول اللحم ألا ترى أن القائل إذا قال: أكلت اليوم طعاماً لم يسبِق الفهم منه إلى أكل اللحم، وأيضاً فانه معارَض بقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " وهذان جنسان، وأيضاً فقد اتفقنا على جواز بيع اللحم بلحم الطير متفاضلاً لعلة أنه بَيْع طعام لا زكاة له بِيع بلحم ليس فيه الزكاة، كذلك بيع السمك بلحم الطير متفاضلاً. الثانية ـ وأما الجراد فالمشهور عندنا جواز بيع بعضه ببعض متفاضلاً. وذكر عن سُحْنون أنه يمنع من ذلك، وإليه مال بعض المتأخرين ورآه مما يدّخر. الثالثة ـ اختلف العلماء فيمن حلف ألا يأكل لحماً فقال ابن القاسم: يحنَث بكل نوع من هذه الأنواع الأربعة.

السابقالتالي
2 3 4