الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ }

فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } روى التّرمذيّ الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبي سعيد الخُدْرِيّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " للمتفرسين " وهو قول مجاهد. وروى أبو عيسى التّرمذيّ عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتّقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ـ ثم قرأ ـ «إِن فِي ذلِك لآياتٍ لِلمتوسّمِين» " قال: هذا حديث غريب. وقال مقاتل وٱبن زيد: للمتوسمين للمتفكرين. الضحاك: للناظرين. قال الشاعر:
أوَ كلّما وردَتْ عكاظَ قبيلةٌ   بعثُوا إليّ عريفَهم يتوسّم
وقال قتادة: للمعتبرين. قال زهير:
وفيهنّ مَلْهًى للصديق ومنظَرٌ   أنيقٌ لعينِ الناظر المتوسّمِ
وقال أبو عبيدة: للمتبصرين، والمعنى متقارب. وروى الترمذِيّ الحكيم من حديث ثابت عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن للَّهِ عز وجل عباداً يعرفون الناس بالتوسُّم ". قال العلماء: التوسّم تفعّل من الوَسْم، وهي العلامة التي يستدلّ بها على مطلوب غيرها. يقال: توسّمت فيه الخير إذا رأيت مِيسَم ذلك فيه ومنه قول عبد الله بن رَوَاحة للنبيّ صلى الله عليه وسلم:
إني توسّمت فيك الخير أعرفه   والله يعلم أني ثابت البصر
آخر:
توسمته لما رأيت مهابة   عليه وقلت المرء من آل هاشم
واتسم الرجل إذا جعل لنفسه علامة يُعرف بها. وتوسّم الرجل طلب كلأَ الوَسْمِيّ. وأنشد:
وأصبحن كالدَّوْم النّواعِم غُدْوةً   على وجْهةٍ من ظاعنٍ مُتَوَسّم
وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فَرْقِك إلى قدمك. وأصل التوسّم التثبت والتفكر مأخوذ من الوَسْم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير وغيره، وذلك يكون بجودة القريحة وحدة الخاطر وصفاء الفكر. زاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدنيا، وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول الدنيا. روى نَهْشَل عن ابن عباس «للمتوسمين» قال: لأهل الصلاح والخير. وزعمت الصوفية أنها كرامة. وقيل: بل هي استدلال بالعلامات، ومن العلامات ما يبدو ظاهراً لكل أحد وبأوّل نظرة، ومنها ما يخفى فلا يبدو لكل أحد ولا يدرك ببادىء النظر. قال الحسن: المتوسمون هم الذين يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار فهذا من الدلائل الظاهرة. ومثله قول ابن عباس: ما سألني أحد عن شيء إلا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه. وروي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفِناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجاراً، وقال الآخر: بل حدّاداً، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله فقال: كنت نجاراً وأنا اليوم حدّاد. وروي عن جُنْدَب بن عبد الله البَجَلِيّ أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال: من سَمّع سمّع الله به، ومن راءى راءى الله به.

السابقالتالي
2