الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }

قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } يعني آدم عليه السلام. { مِن صَلْصَالٍ } أي من طين يابس عن ٱبن عباس وغيره. والصَّلْصَال: الطين الحرّ خُلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جَفّ، فإذا طبخ بالنار فهو الفَخّار عن أبي عبيدة. وهو قول أكثر المفسرين. وأنشد أهل اللغة:
كعَـدْوِ المُصَلْصِل الجَـوّال   
وقال مجاهد: هو الطين المُنْتِن واختاره الكسائيّ. قال: وهو من قول العرب: صلّ اللّحمُ وأصلّ إذا أنتن ـ مطبوخاً كان أو نيئاً ـ يَصل صلولاً. قال الحُطيئة:
ذاك فتًى يبذُل ذا قِدْرِهِ   لا يُفسِد اللحمَ لَدَيه الصُّلول
وطين صَلاّل ومِصْلال أي يصوّت إذا نقرته كما يصوّت الحديد. فكان أوّلَ تراباً، أي متفرّق الأجزاء ثم بُلّ فصار طيناً، ثم تُرك حتى أنتن فصار حَمَأً مسنوناً أي متغيراً، ثم يَبِس فصار صلصالاً على قول الجمهور. وقد مضى في «البقرة» بيان هذا. والحَمَأ: الطين الأسود، وكذلك الحمأة بالتسكين تقول منه: حمِئت البئر حَمْأ بالتسكين إذا نزعت حمأتها. وحَمِئت البئر حمأ بالتحريك كثرتْ حمأتُها. وأحمأتُها إحماء ألقيتُ فيها الحَمْأة عن ٱبن السِّكِّيت. وقال أبو عبيدة: الحمأة بسكون الميم مثل الكمأة. والجمع حَمْءٌ، مثل تمرة وتمر. والحَمَأ المصدر، مثل الهلع والجزع، ثم سُمّي به. والمسنون المتغيّر. قال ٱبن عباس: هو التراب المبتل المنتن، فجعل صلصالاً كالفخار. ومثله قول مجاهد وقتادة، قالا: المنتن المتغيّر من قولهم: قد أَسِن الماء إذا تغيّر ومنهيَتَسَنَّهْ } [البقرة: 259] ومَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ } [محمد: 15]. ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
سقت صداي رُضابا غير ذي أسن   كالمسك فُتّ على ماء العناقيد
وقال الفراء: هو المتغير، وأصله من قولهم: سَننت الحجر على الحجر إذا حككته به. وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسَّنِين ومنه المِسن. قال الشاعر:
ثم خاصرتُها إلى القبة الحمـ   ـراء تمشي في مَرْمَر مَسنون
أي محكوك مُمَلَّس. حُكي أن يزيد بن معاوية قال لأبيه: ألا ترى عبد الرحمن بن حسان يُشبّب بٱبنتك. فقال معاوية: وما قال؟ فقال قال:
هي زَهْراءُ مثلُ لؤلؤة الغوَّ   اص مِيزَتْ من جَوهرٍ مَكْنونِ
فقال معاوية: صدق! فقال يزيد: إنه يقول:
وإذا ما نَسْبتَها لم تجدها   في سَناء من المكارم دونِ
فقال: صدق! فقال: أين قوله: ثم خاصرتها... البيت. فقال معاوية: كذب. وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب، وهو من قول العرب: سننت الماء وغيره على الوجه إذا صببته. والسَّن الصب. وروى عليّ بن أبي طلحة عن ٱبن عباس قال: المسنون الرَّطب وهذا بمعنى المصبوب لأنه لا يكون مصبوباً إلا وهو رطب. النحاس: وهذا قول حسن لأنه يقال: سننت الشيء أي صببته. قال أبو عمرو بن العلاء: ومنه الأثر المرويّ عن عمر أنه كان يَسُنّ الماء على وجهه ولا يَشُنّه. والشنّ بالشين تفريق الماء، وبالسين المهملة صبه من غير تفريق. وقاله سيبويه: المسنون المصوّر. أخِذ من سُنّة الوجه وهو صورته. وقال ذو الرمة:
تُرِيك سنّة وجهٍ غيرَ مُقْرِفة   ملساء ليس بها خال ولا نَدَب
وقال الأخفش: المسنون المنصوب القائم من قولهم: وجه مسنون إذا كان فيه طول. وقد قيل: إن الصَّلصال التراب المدقق حكاه المهدويّ. ومن قال: إن الصلصال هو المنتن فأصله صلاّل، فأبدل من إحدى اللامين الصاد. و«مِنْ حَمَإٍ» مفسر لجنس الصلصال كقولك: أخذت هذا من رجل من العرب.