الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ }

أي لكن من استرق السمع، أي الخطفة اليسيرة، فهو استثناء منقطع. وقيل، هو متصل، أي إلا ممن استرق السمع. أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئاً من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها منه أن تسمع الخبر من أخبار السماء سوى الوحي، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئاً لقوله:إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء: 212]. وإذا استمع الشياطين إلى شيء ليس بوحي فإنهم يقذفونه إلى الكهنة في أسرع من طرفة عين، ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تخبِلهم ذكره الحسن وابن عباس. قوله تعالى: { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } أتبعه: أدركه ولحقه. وشِهاب: كوكب مضيء. وكذلك شِهاب ثاقب. وقوله:بِشِهَابٍ قَبَسٍ } [النمل: 7] بشعلة نار في رأس عود قاله ابن عُزَير. وقال ذو الرمة:
كأنه كوكب في إِثْر عِفْرية   مسوَّمٌ في سواد الليل مُنْقَضِب
وسمي الكوكب شهاباً لبريقه، بشبه النار. وقيل: شهاب لشعلة من نار، قبس لأهل الأرض، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقت كما إذا أحرقت النار لم تعد، بخلاف الكوكب فإنه إذا أحرق عاد إلى مكانه. قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجاً تسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو، فَيُرْمى بالشهاب فيصيب جبهته أو أنفه أو ما شاء الله فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول: إنه كان من الأمر كذا وكذا، فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليها تسعاً، فيحدّثون بها أهل الأرض الكلمة حق والتسع باطل. فإذا رأوا شيئاً مما قالوا قد كان صدّقوهم بكل ما جاءوا به من كذبهم. وسيأتي هذا المعنى مرفوعاً في سورة «سبأ» إن شاء الله تعالى. واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا. فقال ابن عباس: الشهاب يجرح ويُحرق ويخبِل ولا يقتل. وقال الحسن وطائفة: يَقتل فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما: أنهم يُقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكَهانة. والثاني: أنهم يُقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الإستراق وانقطع الإحراق ذكره الماورديّ. قلت: والقول الأوّل أصحّ على ما يأتي بيانه في «الصافات». واختلف هل كان رميٌ بالشهب قبل المبعث فقال الأكثرون نعم. وقيل إلا، وإنما ذلك بعد المبعث. وسيأتي بيان هذه المسألة في سورة «الجن» إن شاء الله تعالى. وفي «الصافات» أيضاً. قال الزجاج: والرمي بالشهب من آيات النبيّ صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم، ولم يشبهوا الشيء السريع به كما شبهوا بالبرق وبالسّيل.

السابقالتالي
2