الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } * { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ }

يقال: ظلّ يفعل كذا، أي يفعله بالنهار. والمصدر الظُّلول. أي لو أجيبوا إلى ما اقترحوا من الآيات لأصروا على الكفر وتعلّلوا بالخيالات كما قالوا للقرآن المعجز: إنه سحر. { يَعْرُجُونَ } من عَرَج يَعْرُج أي صعِد. والمعارج المصاعد. أي لو صعِدوا إلى السماء وشاهدوا الملكوت والملائكة لأصروا على الكفر عن الحسن وغيره. وقيل: الضمير في «عليهِم» للمشركين. وفي «فظَلّوا» للملائكة، تذهب وتجيء. أي لو كشف لهؤلاء حتى يعاينوا أبواباً في السماء تصعَد فيها الملائكة وتنزل لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له عن ابن عباس وقتادة. ومعنى { سُكِّرَتْ } سُدّت بالسحر قاله ابن عباس والضحاك. وقال الحسن: سُحرت. الكلبي: أغشيت أبصارنا وعنه أيضاً عَمِيت. قتادة: أخذت. وقال المُؤَرِّج: دِيرَ بنا من الدوران أي صارت أبصارنا سكرى. جُوَيْبِر: خُدعت. وقال أبو عمرو بن العلاء: «سكرت» غُشِّيت وغُطّيت. ومنه قول الشاعر:
وطلعت شمس عليها مِغْفَر   وجعلت عين الحَرور تَسْكُرُ
وقال مجاهد: «سُكِّرت» حبست. ومنه قول أوْس بن حَجر:
فصرت على ليلة ساهرهْ   فليست بطَلْقٍ ولا سَاكرَهْ
قلت: وهذه أقوال متقاربة يجمعها قولك: مُنِعت. قال ابن عُزَيْز: «سُكِّرت أبصارنا» سُدّت أبصارنا هو من قولك: سَكَرت النهرَ إذا سددته. ويقال: هو من سُكْر الشراب، كأن العين يلحقها ما يلحق الشارب إذا سكِر. وقرأ ابن كَثير «سَكِرت» بالتخفيف. والباقون بالتشديد. قال ابن الأعرابي: سُكِرت ملئت. قال المهدَوِيّ: والتخفيف والتشديد في «سكرت» ظاهران، التشديد للتكثير والتخفيف يؤدّي عن معناه. والمعروف أن «سكر» لا يتعدى. قال أبو علي: يجوز أن يكون سُمع متعدياً في البصر. ومن قرأ «سَكِرت» فإنه شبه ما عرض لأبصارهم بحال السكران، كأنها جرت مجرى السكران لعدم تحصيله. وقد قيل: إنه بالتخفيف من سكر الشراب، وبالتشديد أُخِذت، ذكرهما الماوردي. وقال النحاس: والمعروف من قراءة مجاهد والحسن «سُكِرت» بالتخفيف. قال الحسن: أي سُحرت. وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال: سُكّرت أبصارهم إذا غَشِيها سَمادِير حتى لا يبصروا. وقال الفراء: من قرأ «سَكَرت» أخذه من سكور الريح. قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة. والأصل فيها ما قال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى، قال: هو من السكر في الشراب. وهذا قول حسن أي غشيهم ما غطّى أبصارهم كما غشي السكرانَ ما غطى عقله. وسُكور الريح سكونها وفتورها فهو يرجع إلى معنى التحيير.