الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } * { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ }

قوله تعالى: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ } وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعجبه من أفعال المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم أي ٱصبر كما صبر إبراهيم، وأَعْلِم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم، بل سنَّة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مِهْران: هذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم. { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ } يعني مشركي مكة يمهلهم ويؤخر عذابهم. وقراءة العامة «يُؤَخِّرُهُمْ» بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ». وقرأ الحسن والسُّلَمي وروي عن أبي عمرو أيضاً «نُؤَخِّرُهُمْ» بالنون للتعظيم. { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } أي لا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم، قاله الفراء. يقال: شَخَص الرجلُ بَصرَه وشَخَص البصرُ نفسُه أي سَمَا وطَمَح من هول مَا يرى. قال ابن عباس: تَشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يَرْمَضُون. { مُهْطِعِينَ } أي مسرعين قاله الحسن وقَتَادة وسعيد بن جبير مأخوذ من أهطع يُهطع إهطاعاً إذا أسرع. ومنه قوله تعالى:مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ } [القمر: 8] أي مسرعين. قال الشاعر:
بدجْلة دارُهُمْ ولقد أرَاهُمْ   بدجْلةَ مُهطِعِينَ إلى السَّماعِ
وقيل: المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع أي ناظرين من غير أن يَطْرفوا قاله ابن عباس، وقال مجاهد والضحّاك: «مُهْطِعِينَ» أي مديمي النظر. وقال النحاس: والمعروف في اللغة أن يقال: أهطع إذا أسرع قال أبو عبيد: وقد يكون الوجهان جميعاً يعني الإسراع مع إدامة النظر. وقال ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه. { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } أي رافعي رؤوسهم ينظرون في ذلّ. وإقناع الرأس رفعه قاله ابن عباس ومجاهد. قال ابن عرفة والقُتَبيّ وغيرهما: المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه ومنه الإقناع في الصلاة وأقنع صوته إذا رفعه. وقال الحسن: وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. وقيل: ناكسي رؤوسهم قال المهدويّ: ويقال أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع إذا طأطأ رأسه ذلّة وخضوعاً، والآية محتملة الوجهين، وقاله المبرّد، والقول الأول أعرف في اللغة قال الراجز:
أَنْغَضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا   كأنَّما أَبْصَرَ شيئاً أَطْمَعَا
وقال الشَّمَّاخ يصف إبلاً:
يُبَاكِرْنَ العِضاهَ بمُقْنَعَاتٍ   نَوَاجِذُهنّ كالْحَدَإِ الْوَقِيعِ
يعني: برؤوس مرفوعات إليها لتتناولهن. ومنه قيل: مِقْنَعة لارتفاعها. ومنه قَنِع الرجل إذا رَضِي أي رفع رأسه عن السؤال. وقَنَع إذا سأل أي أتى ما يتقنّع منه عن النحاس. وفم مُقْنَع أي معطوفة أسنانه إلى داخل. ورجل مُقنَّع بالتشديد أي عليه بَيْضة قاله الجوهري. { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة النظر. يقال: طَرَف الرجلُ يَطْرِف طَرْفاً إذا أطبق جَفْنه على الآخر، فسمّي النظر طَرْفاً لأنه به يكون. والطَّرْف العين.

السابقالتالي
2