الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } * { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

قوله تعالى: { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } أي برزوا من قبورهم، يعني يوم القيامة. والبُرُوز الظّهور. والبَرَاز المكان الواسع لظهوره ومنه ٱمرأة بَرْزة أي تظهر للناس فمعنى، «بَرَزُوا» ظهروا من قبورهم. وجاء بلفظ الماضي ومعناه الاستقبال، وٱتصل هذا بقوله: «وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» أي وقاربوا لما ٱستفتحوا فأهلكوا، ثم بعثوا للحساب فبرزوا لله جميعاً لا يسترهم عنه ساتر. «لِلَّهِ» لأجل أمر الله إِياهم بالبروز. { فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ } يعني الأتباع { لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ } وهم القادة. { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } يجوز أن يكون تَبعٌ مصدراً التقدير: ذوي تبع. ويجوز أن يكون جمع تابع مثل حارس وحَرَس، وخادم وخَدَم، وراصد ورَصَد، وباقر وبَقَر. { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ } أي دافعون { عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } أي شيئاً، و «مِن» صلة يقال: أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. { قَالُواْ لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } أي لو هدانا الله إلى الإِيمان لهديناكم إليه. وقيل: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. وقيل لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ } هذا ابتداء خبره «أَجَزِعْنَا» أي: { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } أي من مهرب وملجأ. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر، وبمعنى الاسم يقال: حَاصَ فلان عن كذا أي فرّ وزاغ يَحِيص حَيْصاً وحُيُوصاً وحَيَصَاناً والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول أهل النار إذا ٱشتدّ بهم العذاب تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا هَلُمَّ فلنجزع فيجزعون ويصيحون خمسمائة عام فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا «سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ» ". وقال محمد بن كعب القُرَظيّ: ذُكِر لنا أن أهل النار يقول بعضهم لبعض: يا هؤلاء! قد نزل بكم من البلاء والعذاب ما قد ترون، فهلمّ فلنصبر فلعلّ الصّبر ينفعنا كما صبر أهل الطّاعة على طاعة الله فنفعهم الصّبر إذ صبروا فأجمعوا رأيهم على الصّبر فصبروا، فطال صبرهم فجزعوا، فنادوا: «سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيص» أي مَنجَى، فقام إبليس عند ذلك فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ } يقول: لست بمغنٍ عنكم شيئاً { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } الحديث بطوله، وقد كتبناه في كتاب «التذكرة» بكماله. قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ } قال الحسن: يقف إبليس يوم القيامة خطيباً في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعاً.

السابقالتالي
2 3