الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } * { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } * { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }

قوله تعالى: { وَٱسْتَفْتَحُواْ } أي وٱستنصروا أي أذِن للرسل في الاستفتاح على قومهم، والدعاء بهلاكهم قاله ابن عباس وغيره، وقد مضى في «البقرة». ومنه الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر. وقال ابن زيد: استفتحت الأمم بالدعاء كما قالت قريش:ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } [الأنفال: 32] الآية. وروي عن ابن عباس. وقيل قال الرسول: «إنهم كذبوني فافتح بيني وبينهم فتحاً» وقالت الأمم: إن كان هؤلاء صادقين فعذّبنا، عن ابن عباس أيضاً نظيرهٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [العنكبوت: 29]ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الأعراف: 77]. { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً هكذا هو عند أهل اللغة، ذكره النحاس. والعنيد المعاند للحق والمجانب له، عن ٱبن عباس وغيره يقال: عَنَد عن قومه أي تباعد عنهم. وقيل: هو من العَنَد، وهو الناحية وعاند فلان أي أخذ في ناحية مُعْرِضاً قال الشاعر:
إذا نزلتُ فٱجعلوني وَسَطَا   إنّي كبيرٌ لا أُطِيقُ الْعُنَّدَا
وقال الهَرَويّ قوله تعالى: { جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أي جائر عن القصد وهو العَنُود والعَنِيد والعانِد وفي حديث ٱبن عباس وسئِل عن المستحاضة فقال: إنه عِرْقٌ عانِدٌ. قال أبو عبيد: هو الذي عَنَد وبَغَى كالإنسان يعانِد فهذا العِرق في كثرة ما يخرج منه بمنزلته. وقال شَمِر: العاند الذي لا يرقأ. وقال عمر يذكر سِيرته: أَضُمُّ العَنُود قال الليث: العنود من الإبل الذي لا يخالطها إنما هو في ناحية أبداً أراد من هَمَّ بالخلاف أو بمفارقة الجماعة عطفتُ به إليها. وقال مقاتل: العنِيد المتكبر. وقال ابن كَيْسان: هو الشامخ بأنفه. وقيل: العَنُود والعَنِيد الذي يتكبر على الرسل ويذهب عن طريق الحق فلا يسلكها تقول العرب: شر الإبل العنود الذي يخرج عن الطريق. وقيل: العنيد العاصي. وقال قتادة: العنيد الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله. قلت: والجبار والعنيد في الآية بمعنى واحد، وإن كان اللفظ مختلفاً، وكل متباعد عن الحق جبار وعنيد أي متكبر. وقيل: إن المراد به في الآية أبو جهل ذكره المهدويّ. وحكى الماورديّ في كتاب «أدب الدنيا والدين» أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوماً في المصحف فخرج له قوله عز وجل: { وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } فمزق المصحف وأنشأ يقول:
أتُوعِدُ كلَّ جَبَّارٍ عَنِيدِ   فها أنا ذاكَ جبَّارٌ عَنِيدُ
إذا ما جِئتَ ربَّكَ يوم حَشْرٍ   فَقُلْ يا رَبِّ مَزَّقنيِ الوليِدُ
فلم يلبث إلا أياماً حتى قُتل شرّ قِتلةٍ، وصُلِب رأسه على قصره، ثم على سُور بلده. قوله تعالى: { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } أي من وراء ذلك الكافر جهنم، أي من بعد هلاكه. ووراء بمعنى بعدُ قال النابغة:

السابقالتالي
2 3