الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } * { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } * { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ }

قوله تعالى: { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } تقدّم معنى الاستهزاء في «البقرة» ومعنى الإملاء في «آل عمران» أي سُخِر بهم، وأزْرِي عليهم فأمهلت الكافرين مدة ليؤمن من كان في علمي أنه يؤمن منهم فلما حقّ القضاء أخذتهم بالعقوبة. { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي فكيف رأيت ما صنعت بهم، فكذلك أصنع بمشركي قومك. قوله تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } ليس هذا القيام القيام الذي هو ضدّ القعود، بل هو بمعنى التولّي لأمور الخلق كما يقال: قام فلان بشغل كذا فإنه قائم على كل نفس بما كسبت أي يقدرها على الكسب، ويخلقها ويرزقها ويحفظها ويجازيها على عملها فالمعنى: أنه حافظ لا يغفل، والجواب محذوف والمعنى: أفمن هو حافظ لا يغفل كمن يغفل. وقيل: «أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ» أي عالم قاله الأعمش. قال الشاعر:
فلولا رِجالٌ من قريشٍ أَعِزّة   سَرَقْتُمْ ثيابَ البيتِ واللَّهُ قائمُ
أي عالم فالله عالم بكسب كل نفس. وقيل: المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم، عن الضحاك. { وَجَعَلُواْ } حال أي أو قد جعلوا، أو عطف على «اسْتُهْزِىءَ» أي ٱستهزؤوا وجعلوا أي سَمّوا { للَّهِ شُرَكَآءَ } يعني أصناماً جعلوها آلهة. { قُلْ سَمُّوهُمْ } أي قل لهم يا محمد: «سَمُّوهُمْ» أي بيّنوا أسماءهم، على جهة التهديد أي إنما يسمّون: اللاّت والعُزّى وَمَنَاة وهُبَل. { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ } «أم» استفهام توبيخ، أي أتنبئونه وهو على التحقيق عطف على ٱستفهام متقدّم في المعنى لأن قوله: «سَمُّوهُمْ» معناه: أَلَهُمْ أسماء الخالقين. «أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ». وقيل: المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه. «أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ» يعلمه؟ فإن قالوا: بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا: بظاهر يعلمه فقل لهم: سموهم فإذا سموهم اللاّت والعُزّى فقل لهم: إن الله لا يعلم لنفسه شريكاً. وقيل: «أَمْ تُنَبِّئونَهُ» عطف على قوله: «أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ» أي أفمن هو قائم، أم تنبئون الله بما لا يعلم أي أنتم تدعون لله شريكاً، والله لا يعلم لنفسه شريكاً أفتنبئونه بشريك له في الأرض وهو لا يعلمهٰ وإنما خصّ الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض لأنهم ٱدّعوا له شركاء في الأرض. ومعنى. { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ }: الذي أنزل الله على أنبيائه. وقال قَتَادة: معناه بباطل من القول ومنه قول الشاعر:
أَعَيَّرْتَنَا ألْبَانَها ولُحُومَهَا   وذلِك عارٌ يابن رَيْطَةَ ظاهرُ
أي باطل. وقال الضّحاك: بكذب من القول. ويحتمل خامساً: أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم ويكون معنى الكلام: أتخبرونه بذلك مشاهدين، أم تقولون محتجين. { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } أي دع هذاٰ بل زين للذين كفروا مكرهم قيل: ٱستدراك على هذا الوجه، أي ليس لله شريك، لكن زين للذين كفروا مكرهم.

السابقالتالي
2