الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ }

قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ } هذا متصل بقوله:لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [الرعد: 27]. وذلك أن نفراً من مشركي مكة فيهم أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية المخزوميّان جلسوا خلف الكعبة، ثم أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال له عبد الله: إن سرّك أن نتبعك فسَيِّر لنا جبال مكة بالقرآن، فأَذْهبها عنّا حتى تنفسح فإنها أرض ضيّقة، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً، حتى نغرس ونزرع فلستَ كما زعمتَ بأهون على ربك من داود حين سخّر له الجبال تسير معه، وسَخِّر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها مِيرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا فقد كان سليمان سخّرت له الريح كما زعمتَ فلستَ بأهون على ربك من سليمان بن داود، وأَحْيِ لنا قُصَيّا جدّك، أو من شئتَ أنت من موتانا نسأله أحقُّ ما تقول أنت أم باطل؟ فإن عيسى كان يحيـي الموتى، ولست بأهون على الله منه فأنزل الله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ» الآية قال معناه الزّبير بن العوام ومجاهد وقَتَادة والضّحاك والجواب محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، لكن حذف إيجازاً، لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه كما قال ٱمرؤ القيس:
فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَموتُ جَمِيعةً   ولكِنَّها نفسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا
يعني لهان عليّ هذا معنى قول قَتَادة قال: لو فَعَل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم. وقيل: الجواب متقدم، وفي الكلام تقديم وتأخير أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا. الفراء: يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن. الزّجاج: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً» إلى قوله: «الْمَوْتَى» لما آمنوا، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله:وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ } [الأنعام: 111] إلى قوله:مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الأنعام: 111]. { بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً } أي هو المالك لجميع الأمور، الفاعل لما يشاء منها، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن، إنما يكون بأمر الله. قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } قال الفراء قال الْكَلْبي: «ييئس» بمعنى يعلم، لغة النَّخَع وحكاه القُشَيْري عن ابن عباس أي أفلم يعلموا وقاله الجوهري في الصحاح. وقيل: هو لغة هَوَازِن أي أفلم يعلم عن ابن عباس ومجاهد والحسن. وقال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبيّنوا، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النَّصْرِي:
أَقُولُ لَهُمْ بالشَّعْب إذْ يَيْسِرُونَنِي   أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ٱبْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
يَيْسرونني من المَيْسر، وقد تقدم في «البقرة» ويروى يأسرونني من الأَسْر. وقال رَبَاح بن عديّ:
أَلَمْ يَيْئَسِ الأقوامُ أَنِّي أنا ٱبْنُهُ   وإنْ كنتُ عن أرضِ الْعَشِيرةِ نائيَا
في كتاب الرّد «أني أنا ٱبنه» وكذا ذكره الغزنوي: ألم يعلم والمعنى على هذا: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً من غير أن يشاهدوا الآيات.

السابقالتالي
2