الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } * { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } * { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } * { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ }

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قَتَادة وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات. { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } قيل: في قطع الرَّحم. وقيل: في جميع المعاصي. { وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ }. سوء الحساب الاستقصاء فيه والمناقشة ومن نوقش الحساب عُذّب. وقال ابن عباس وسعيد بن جُبَير: معنى. «يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ» الإيمان بجميع الكتب والرسل كلهم. الحسن: هو صلة محمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل رابعاً: أن يصلوا الإيمان بالعمل الصالح «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» فيما أمرهم بوصله، «وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ» في تركه والقول الأول يتناول هذه الأقوال كما ذكرنا، وبالله توفيقنا. قوله تعالى: { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } قيل: «الَّذِينَ» مستأنف لأن «صَبَرُوا» ماض فلا ينعطف على «يُوفونَ». وقيل: هو من وصف مَن تقدّم، ويجوز الوصف تارة بلفظ الماضي، وتارة بلفظ المستقبل لأن المعنى من يفعل كذا فله كذا ولما كان «الَّذِينَ» يتضمن الشرط و الماضي في الشرط كالمستقبل جاز ذلك ولهذا قال: «الَّذِينَ يُوفُونَ» ثم قال: «وَالَّذِينَ صَبَرُوا» ثم عطف عليه فقال: «وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةِ» قال ٱبن زيد: صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصية الله. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب، والحوادث والنوائب. وقال أبو عِمْران الْجَوْني: صبروا على دينهم ابتغاء وجه الله. { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } أدّوها بفروضها وخشوعها في مواقيتها. { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } يعني الزكاة المفروضة عن ابن عباس، وقد مضى القول في هذا في «البقرة» وغيرها. { وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ } أي يدفعون بالعمل الصالح السَّيىء من الأعمال، قاله ابن عباس. ٱبن زيد: يدفعون الشر بالخير. سعيد بن جُبير: يدفعون المنكر بالمعروف. الضّحاك: يدفعون الفحش بالسلام. جُوَيبِر: يدفعون الظلم بالعفو. ٱبن شجرة: يدفعون الذنب بالتوبة. القُتَبي: يدفعون سفه الجاهل بالحلم فالسّفه السّيئة، والحلم الحسنة. وقيل: إذا هموا بسيئة رجعوا عنها واستغفروا. وقيل: يدفعون الشرك بشهادة أن لا إلٰه إلا الله فهذه تسعة أقوال، معناها كلها متقارب، والأول يتناولها بالعموم ونظيره:إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114] ومنه قوله عليه السلام لمعاذ: " وَأَتْبِعْ السّيئة الحَسَنَة تَمْحُهَا وخَالِق الناسَ بِخُلُق حَسَن " قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } أي عاقبة الآخرة، وهي الجنة بدل النار، والدار غداً داران: الجنة للمطيع، والنار للعاصي فلما ذكر وصف المطيعين فدارهم الجنة لا محالة. وقيل: عنى بالدار دار الدنيا أي لهم جزاء ما عملوا من الطاعات في دار الدنيا. قوله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } أي لهم جنات عدن فـ«ـجَنَّاتُ عَدْنٍ» بدل من «عُقْبَى» ويجوز أن تكون تفسيراً لـ«ـعُقْبَى الدَّارِ» أي لهم دخول جنات عدن لأن «عُقْبَى الدَّارِ» حَدَث و«جَنَّاتُ عَدْنٍ» عين، والحدث إنما يفسر بحدَث مثله فالمصدر المحذوف مضاف إلى المفعول.

السابقالتالي
2 3