الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }

قوله تعالى: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار فإذا صعِدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار. وقال: «مُعَقِّبَاتٌ» والملائكة ذُكْرَان لأنه جمع مُعقِّبة يقال: مَلَك مُعقِّب، وملائكة مُعقِّبة، ثم مُعقِّبات جمع الجمع. وقرأ بعضهم ـ «لَهُ مَعَاقِيبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ». ومعاقيب جمع مُعْقِب وقيل للملائكة معقّبة على لفظ الملائكة. وقيل: أنّث لكثرة ذلك منهم نحو نسّابة وعلاّمة وراوية قاله الجوهري وغيره. والتّعقب العود بعد البدء قال الله تعالى:وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } [النمل: 10] أي لم يَرجع وفي الحديث: " مُعَقِّباتٌ لا يَخِيبُ قائِلُهنّ ـ أو ـ فاعلُهنّ " فذكر التسبيح والتحميد والتكبير. قال أبو الهيثم: سُمّين «مُعقِّبات» لأنهن عادت مرّة بعد مرّة، فِعْل من عَمِل عَملاً ثم عاد إليه فقد عَقَّبَ. وٱلمعقّبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعترِكات على الحوض فإذا ٱنصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى. وقوله: { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار. { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } ٱختلف في هذا الحفظ فقيل: يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرّة، لطفاً منه به، فإذا جاء القَدَر خلّوا بينه وبينه قاله ٱبن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. قال أبو مِجلَز: جاء رجل من مُرَاد إلى علي فقال: احترس فإن ناساً من مُرَاد يريدون قتلك فقال: إن مع كل رجل مَلَكين يحفظانه ما لم يُقدَّر، فإذا جاء القَدَر خلَّيَا بينه وبين قَدَر الله، وإن الأجل حِصن حصينة وعلى هذا، «يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» أي بأمر الله وبإذنه فـ«ـمِن» بمعنى الباء وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقيل: «مِنْ» بمعنى «عن» أي يحفظونه عن أمر الله، وهذا قريب من الأوّل أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم وهذا قول الحسن تقول: كسوته عن عُرْي ومن عُرْي ومنه قوله عز وجل:ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 4] أي عن جوع. وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب، حتى لا تحلّ به عقوبة لأن الله لا يغير ما بقوم من النّعمة والعافية حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصرُّوا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النّقمة، وتزول عنهم الحَفَظَة المعقبات. وقيل: يحفظونه من الجِنّ قال كعب: لولا أن الله وَكَّل بكم ملائكة يَذبُّون عنكم في مَطْعَمكم وَمَشْرَبِكم وعوراتكم لَتخطَّفتكم الجِنّ. وملائكة العذاب من أمر الله وخصّهم بأن قال: «مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» لأنهم غير معايَنين كما قال:قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] أي ليس مما تشاهدونه أنتم. وقال الفرّاء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره، له معقبات من أمر الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه وهو مرويّ عن مجاهد وٱبن جُرَيج والنَّخعيّ وعلى أن ملائكة العذاب والجِنّ من أمر الله لا تقديم فيه ولا تأخير، وقال ٱبن جريج: إن المعنى يحفظون عليه عمله، فحذف المضاف.

السابقالتالي
2 3