الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } * { قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } * { فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { قَالُواْ يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } * { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } * { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ }

قوله تعالى: { وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ } أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال: فَصَلَ فُصُولاً، وفَصَلْته فَصْلاً، فهو لازم ومتعد. { قَالَ أَبُوهُمْ } أي قال لمن حضر من قرابته ممن لم يخرج إلى مصر وهم ولد ولده: { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ }. وقد يحتمل أن يكون خرج بعض بنيه، فقال لمن بقي: «إنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ». قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف إليه، وبينهما مسيرة ثمان ليال. وقال الحسن: مسيرة عشر ليال وعنه أيضاً مَسيرة شهر. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: إنما أوصل ريحه من أوصل عرش بلقيس قبل أن يرتدّ إلى سليمان عليه السلام طرفه. وقال مجاهد: هبّت ريح فصَفَقَت القميصَ فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فعند ذلك قال: «إنِّي لأَجِدُ» أي أشم فهو وجود بحاسة الشم. { لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } قال ابن عباس ومجاهد: لولا أن تُسفّهون ومنه قول النابغة:
إلاَّ سُليمان إذ قال المليكُ لَهُ   قُمْ في البرِيَّة فٱحْدُدْها عنِ الفَنَدِ
أي عن السَّفَه. وقال سعيد بن جُبير والضحاك: لولا أن تكذِّبون. والفَنَد الكذب. وقد أَفْنَد إفْنَاداً كَذَب ومنه قول الشاعر:
هل في ٱفتخار الكريم من أَوَدِ   أَمْ هل لقول الصَّدُوقِ من فَنَدِ
أي من كذب. وقيل: لولا أن تُقبِّحون قاله أبو عمرو والتّفنيد التقبيح، قال الشاعر:
يا صاحبيّ دعا لوميِ وتَفْنيدِي   فليس ما فاتَ مِن أمرِي بمردودِ
وقال ٱبن الأعرابي: «لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ» لولا أن تُضعِّفوا رأيي وقاله ابن إسحق. والفند ضعف الرأي من كِبر. وقول رابع: تُضلِّلون، قاله أبو عبيدة. وقال الأخفش: تلوموني والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي. وقال الحسن وقَتَادة ومجاهد أيضاً: تُهرِّمون وكله متقارب المعنى، وهو راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي يقال: فَنَّده تفنيداً إذا أعجزه، كما قال:
أهلكنـي باللـوم والتفنِيـد   
ويقال: أفند إذا تكلم بالخطأ والفند الخطأ في الكلام والرأي، كما قال النابغة:
... فٱحـددهـا عـن الفَنَـدِ   
أي ٱمنعها عن الفساد في العقل، ومن ذلك قيل: اللوم تفنيد قال الشاعر:
يا عاذليّ دَعَا الْمَلاَمَ وأَقْصِرَا   طالَ الهَوَى وأطلتما التَّفْنِيدا
ويقال: أَفْنَد فلاناً الدهرُ إذا أفسده ومنه قول ابن مُقْبِل:
دَعِ الدَّهْرَ يَفْعَلْ ما أَرادَ فإنَّهُ   إذا كُلِّف الإفنادَ بالناسِ أَفْنَدَا
قوله تعالى: { قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } أي لفي ذهاب عن طريق الصواب. وقال ابن عباس وابن زيد: لفي خطئِك الماضي من حبّ يوسف لا تنساه. وقال سعيد بن جُبير: لفي جنونك القديم. قال الحسن: وهذا عقوق. وقال قَتَادة وسفيان: لفي محبتك القديمة. وقيل: إنما قالوا هذا لأن يوسف عندهم كان قد مات.

السابقالتالي
2 3